لم تعد السينما تختزل في عرض لشريط سينمائي داخل قاعة للعرض أمام حشود من المتفرجين ، وإنما اصبحت بلغة الفكر جزء أصيلا من الإنتاجات الروحية لكل أمة تعكس رؤيتها ورقيها الحضاريين فهي التاريخ البصري حيث يتجاسر الحلم والواقع داخل قوالب إبداعية وجمالية ، لقد أصبحت السينما سفرا واكتشافا نحو عوالم متعددة تتجاوز الحاضر بضيقه و محدوديته إلى رحابة المخيال الانساني بإمكاناته اللامتناهية. وسياق هذا التقديم هوالإنطباع الأولي عن مشاهدة لفيلمين أمريكيين ، الأول "ملاحقة السعادة The pusuit of happiness " للمخرج "غبرييل موكينو" ومن تمثيل النجم "ويل سميث" حيث يلعب هذا الأخير دور مواطن أمريكي تنقلب أحواله الإقتصادية والأسرية بشكل مفاجئ ، لكنه يحافظ على تركيزه و مثابرته ويستطيع بفضلهما تجاوز ظروف التشرد بمعية إبنه الصغير، أما الفيلم الثاني هو "الفخر Pride" للمخرج" Sunu Gonera" ، ومن بطولة "ترانس هوارد" في دور شاب أفروامريكي حامل لشهادة عليا في الرياضيات ، لم تشفع له حتى يمتهن التدريس لوجود ممارسات عنصرية خلال الحقبة السبعينات فيتجه مضطرا الى الإشتغال بإحدى الأحياء/المعازل للسود بولاية فيلادلفيا لكي يشرف على تصفية مركز ترفيهي متهالك تتوسطه بركة سباحة مهملة لكنه يبادر إلى استقطاب شباب المنطقة الذين تتهددهم الفاقة والتهميش والجريمة فيشرف على تدريبهم كفريق للسباحة بل ويشجعهم على مشاركة في المسابقات المحلية والقومية فيحققون إنجازات تاريخية خالدة. من الواضح انه لازال الكثيرون داخل متداولنا الثقافي يتوجسون من كل الانتاجات الامريكية وخصوصا الفنية منها ، أكيد أنه توجد العديد من المؤاخدات حول التعامل الامريكي مع الفن عبر تحويله لسلعة تقوم بمعيار العرض والطلب ، ففي الصناعة السينمائية الهوليودية مثلا تستخدم كل الوسائل لتتحقيق المكاسب في شباك التذاكر عبر دغدغة الغرائز الأولية للمستهلك من جنس وعنف ، أو ترسيخها لبعض الصور النمطية حول الشعوب الأخرى، أو حتى استبطانها للأهداف السياسية لحكومة واشنطن ، لكن تبقى السينما الأمريكية الأكثر قدرة على صياغة لرؤية فكرية أو موقف داخل توليفة تجمع بين المتعة و التشويق أي انها سينما توازن بين النخبوية والشعبية مما يفسر نجاحها على مستوى الإبهار والإنتشار. وبالعودة الى الفيلمين السابقين نلاحظ ان الناظم المشترك بينهما هو نقدهما المبطن لأسس الإقتصادية والاجتماعية للنظام الامريكي المليئ بالتشوهات القيمية التي تنهك كاهل المواطن الامريكي خصوصا الأقليات العرقية والاثنية ، كما يحتفي الفلمان بالفردانية كقيمة أمريكية أصيلة وقدرتها على تجاوز الحتميات الاجتماعية مع قليل من الحظ والكثير من العمل والشغف بالحياة والتعاطف مع الآخر، كذلك الملفت أن قصتي الفيلمين مقتبسة عن شخصيات أمريكية حقيقية (المليونير "كريس كاردنر" ومدرب سباحة "جيم أليس") كما تشير نهاية الفيلم ، مما يضفي عليه بعد الواقعية. وإن كانت هذه المقالة لا تسعى لكي تكون قراءة نقدية تقارب الأبعاد الجمالية للفيلمين ، أو حتى أن توجز مضمون الصورة والايقاع والقصة لشريطين السينمائيين ببضعة كلمات ، وإنما غايتها هو تسليط الضوء حول قدرة الفن السينمائي الحقيقي على صناعة النموذج والقدوة أمام المشاهد وخصوصا الشباب منهم ، وتحفيزهم على نحت مصيرهم الشخصي والجماعي ، فنقل حيوات لشخصيات ناجحة ولتجارب إيجابية نحو الشاشة الفضية بات ضرورة إجتماعية في زمن الجزر الأخلاقي ، وحتى تتحول بذلك إلى أيقونات ملهمة تضاهي الشخصيات التاريخية في بثها لدى المتابع لاكسير التحدي في وجه كل الحواجز والمثبطات التي تكون جذورها كامنة في دواخله عبر استسلامه للقدر ، وأنه بفضل الكفاح الشخصي والكد والقدرة على التأقلم مع المتغيرات والمبادرة الخلاقة يستطيع الفرد مقارعة أوضاعه وتغييرها نحو الافضل ، إنها صورة مثالية وبطولية ربما يتقاطع فيها الحقيقي بالمتخيل ، ولكن أفراد المجتمع الإنساني المعاصر صار أكثر حاجة لهذا النوع من النماذج التي تحمل رمزية لكونها تزرع معنى الأمل لدى الجمهور وتحفزهم على تحقيق الأماني والأحلام. ذ سعيد أشاحو - مدرس مادة الفلسفة -