يحتفي المغرب في 18 يونيو من كل سنة باليوم الوطني للمقاومة، وهي ذكرى تؤرخ لاستشهاد الناشط الوطني في خلايا المقاومة المغربية السرية للاستعمار الفرنسي، محمد الزرقطوني الذي آثر تناول حبة سم على أن يكشف أسرار الخلايا السرية آنذاك عندما تم القبض عليه من طرف السلطات الاستعمارية الفرنسية. الميلاد في 1925 سيرى محمد الزرقطوني النور بالدارالبيضاء التي كانت محضنا لقيادات بارزة من الحركة الوطنية، ليكبر ويترعرع وسط الوطنيين الحقيقيين ويحتك بأذناب الاستعمار الفرنسي منذ نعومة أظافره. الانخراط في صفوف المقاومة السرية نشط الزرقطوني فيما يعرف بالمقاومة السرية وكون سنة 1950 فرقة صغيرة من وطنيين فدائيين، أشرف على تدريبهم ونسق في إمدادهم بالسلاح. إقدام السلطات الاستعمارية الفرنسية على نفي محمد الخامس بعيدا عن البلاد كثف من نشاط الوطنيين وتحركاتهم، وعرفت المقاومة إثر هذه الفعلة، التي وصفها الوطنيون وعموم المغاربة إذاك بالشنعاء، عرفت انعطافا نحو الفعل المسلح الأكثر تنظيما وهو جيش التحرير، مع تكثيف العمليات الفدائية التي أصبحت أكثر عددا وأكثر تأثيرا على السلطات الاستعمارية. القيام بدور المنسق والزرقطوني انخرط في هذا النسق العام وكثف اتصالات التنسيق مع مختلف الوطنيين المنتشرين في مختلف مدن وبوادي المغرب لأجل تنظيم عمليات فدائية تستهدف المعمرين أو الخونة من المغاربة الذين باعوا وطنيتهم مقابل متاع من الدنيا قليل. ويتذكر التاريخ الوطني لمحمد الزرقطوني أول عملية فدائية قام بها بمعية ثلة من الفدائيين المغاربة، حين أقدموا على تفجير القطار الذي ينقل المعمرين من العاصمة الجزائرية إلى الدارالبيضاء والعكس. وكان الزرقطوني، شأنه في ذلك شأن رفاقه المجاهدين من الفدائيين المغاربة الذين تطوعوا للدفاع عن وطنهم بلا مقابل ومسترخصين الغالي والنفيس، يحمل دائما حبة سم في جيبه، لأنهم كانوا يعتقدون دائما أنهم يوما ما سينتهون بين يدي السلطات الاستعمارية وما يعنيه ذلك من الدخول في مسلسل من التعذيب يبدأ ولا ينتهي إلا بالإعدام أو الموت، فيفضلون "الانتحار" باستعمال حبوب السم عند أول وهلة من الوقوع في قبضة جنود الاستعمار، لاعتقادهم أن قدرة الإنسان على التحمل ضعيفة، وقد يضطرون تحت التعذيب إلى كشف كل الأسرار عن أماكن وخطط المجاهدين. ولم يغمض لسلطات الاستعمار بالدارالبيضاء عين ولم تألوا جهدا في ترصد محمد الزرقطوني مستعملة عيونها المنتشرة في كل مكان، إلى أن ألقت عليه القبض في صباح 18 يونيو 1955 وهو في منزله بسيدي معروف، فاستخرج حبة سم من جيبه ورمى بها إلى جوفه وأسلم روحه قبل وصوله لدهاليز الشرطة المستعمرة حيث التعذيب، ليضيع على الاستعمار فرصة أخرى من فرص الوصول إلى أماكن الوطنيين وكشف خططهم المناوئة لها ولسياستها الاستعمارية الاستغلالية الشرهة. شاهد على عصر الزرقطوني يحكي أحد المقاومين المعاصرين لمحمد الزرقطوني وهو الحسين برادة عن الزرقطوني، في شهادته الحية المدونة في إحدى إصدارات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، فيقول "تعرفت على محمد الزرقطوني في أوائل شهر مارس 1951 عن طريق التهامي نعمان – ابن مدينة الدارالبيضاء وصاحب مكتبة "الإخوان" بدرب السلطان بحي الأحباس- وفكرنا في القيام بالعمل المسلح ضد الاحتلال الفرنسي، بتنسيق مع نخبة من الوطنيين المخلصين". وتابع برادة "خلال حوارنا بخصوص الوضع السياسي بالمغرب، لمسنا استعدادا كاملا وصادقا من طرف محمد الزرقطوني للمشاركة في تنظيم المقاومة المسلحة. وكلفنا التهامي نعمان ليفاتحه في الموضوع ويدعوه للاتصال بجماعتنا. وكان أول لقاء لنا بمنزل التهامي نعمان، بحضور الإخوان حسن العرايشي وسليمان رضا عباس العرايشي، وكنا مقنعين بأقنعة سوداء، باستثناء التهامي نعمان ومحمد الزرقطوني اللذين كانا مكشوفي الوجه". وأضاف، في الكتاب ذاته، "بعد توضيح وشرح الأهداف والمهام التي سنقدم عليها، خدمة للقضية الوطنية، حيث كانت المناقشات جادة ودقيقة ومعمقة فيما بيننا، امتلأت على إثرها عينا محمد الزرقطوني بالدموع، وأخبرنا بأنه يتوفر على ثلاثة مسدسات، مؤكدا لنا استعداده لكل ما يستوجبه العمل. وكان بحوزتنا آنذاك مسدس من خشب، طرحناه أمامنا فوق الطاولة وأدينا يمين الإخلاص لمنظمتنا. وانفض الاجتماع على أن يتجدد اللقاء بيننا فيما بعد". وقال الزرقطوني إذاك، يحكي الحاج الحسين برادة، "إنني مطمئن لوجود أناس بالبلاد يفكرون بمثل هذا التفكير". بعد مضي ثلاثة أيام عن اللقاء الأول، عادت مجموعة الوطنيين للاجتماع من جديد، هذه المرة ببيت المقاوم التهامي نعمان، فتحدثوا عن "الشؤون السياسية والحالة التي آلت إليها البلاد"، يقول برادة "من دون أن يعلم محمد الزرقطوني أننا نحن نفس الأشخاص الذين سبق له اللقاء بهم، واتفقنا مع التهامي فيما بعد على أن نخصص موعدا للتعارف حيث قدمنا لمحمد الزرقطوني أنفسنا واحدا واحدا، ومكثنا طوال تلك الليلة بمنزل التهامي نعمان". في ذات الليلة سيذهب الوطنيون من منزل التهامي رأسا إلى محل بيع الخشب، الذي يملك الزرقطوني جزءا منه، واستخرجوا صندوقا خشبيا كان مدفونا بالمحل به ثلاث مسدسات. يحكي برادة "وأخذ كل واحد منا مسدسا، الزرقطوني، سليمان رضا عباس العرايشي وعبد ربه". وأردف "في اليوم الموالي ذهبنا إلى الواد المالح، قرب مدينة المحمدية، لاختبار المسدسات، وذلك بإطلاق طلقة واحدة. وعند العودة من المحمدية إلى الدارالبيضاء، استوقفت الزرقطوني سيارة، كان يعرف صاحبها، وهو "مازوني" صاحب شركة الخشب الموجودة بشارع الحاج عمر الريفي، وركبنا معه فأوصلنا ومسدساتنا معنا، وسهل علينا، بذلك، تجاوز حاجز الدرك دون الخضوع لأي تفتيش. في مساء ذلك اليوم، اجتمعنا لدى التهامي نعمان وأسفر هذا الاجتماع عن إطلاق اسم "المنظمة السرية" على جماعتنا وقررنا الشروع في كتابة مناشير مخطوطة، تحث التجار المغاربة على إقفال دكاكينهم فيما يشبه العصيان المدني، وكان ذلك يوم 7 أبريل 1951 وأمضينا هذا المنشور باسم المتطوعين". مثال للشجاعة والدهاء رغم أن محمد الزرقطوني كان في ريعان شبابه، حيث لم يتجاوز عمره آنذاك 27 سنة، إلا أنه فضل التضحية لأجل الوطن على الركون وإمضاء الوقت في الملذات، فقد كان مثالا للشاب الشجاع والمبادر إلى اختيار أصعب المهام، دافعه إلى ذلك رؤية المغرب متحررا من قيود الاستعمار كما كان. وكان الزقطوني دائم التنقل بين المدن والقرى في سرية تامة لتنسيق عمل الحركة الوطنية والمقاومة من أجل أن تكون محكمة التنسيق والتنظيم. ورغم أنه كان يعتبر نفسه جنديا من جنود الحركة الوطنية والمقاومة والعمل الفدائي لا قائدا، إلا أنه كان مع ذلك يحمل صفات القائد المسؤول الأول في التنسيق بين الجماعات المسلحة المتواجدة بالمدن والقرى، فكان يربط الاتصال بمقاومي فاس عن طريق عبد الله الشفشاوني وبمقاومي مراكش عن طريق حمان الفطواكي. وعرف بين زملائه الوطنيين المقاومين بذكائه ودهائه في مراوغة الفرنسيين، وأخذ الحيطة والحذر من عيون الاستعمار التي تتعقبه في كل مكان، خصوصا مع وصول السلطات الاستعمارية عن طريق تحقيقاتها إلى كشف أسماء الوطنيين من منفذي عملية السوق المركزي بالعاصمة الاقتصادية في دجنبر 1953، واعتقالهم. أمام هذا البحث المستمر من السلطات المستعمرة على محمد الزرقطوني، التي اعتبرت أنه قد يكون من العقول المدبرة لهاته العملية التي هزت كيان المعمرين الفرنسيين وأقلقت راحتهم ونبهتهم أن لا أمن لهم في وطن استعمروه وهو ليس لهم، وإحساس محمد الزرقطوني بقرب وقوعه في يد السلطات الاستعمارية فكثف من تنقله بين الأماكن ليشتت تركيزها، وفي المقابل وسع نطاق خلايا المقاومة السرية بتأسيس أخرى جديدة لضمان استمرارية عمل المقاومة إلى أن يتحقق الهدف الأسمى، الاستقلال والحرية. نهاية الزرقطوني البطل غير أن اعتقال السلطات الاستعماري لأحد أعز أصدقاء محمد الزرقطوني بمدينة فاس، البشير شجاعدين، عجل لمحمد الزرقطوني وقوعه في يد الاستعمار، لكن كجثة هامدة وليس حيا، كما وعد إخوانه المقاومين حين قال ذات لقاء "أعدكم أنه في حالة إلقاء الفرنسيين القبض علي فسيلقون القبض على جثة هامدة". وهو ما حصل بالفعل حينما اقتحمت الشرطة الفرنسية منزل الزرقطوني في الساعة الخامسة صباحا من يوم الجمعة 18 يونيو 1954، فابتلع حبة السم التي كان يحملها وفتح باب منزله مرحبا بعناصر الشرطة الفرنسية، التي كان يعلم أنها ستصل إليه يوما ما، وسلم نفسه بدون مقاومة وما أن وصل إلى مخفر الشرطة الاستعمارية حتى أصبح جثة هامدة قبل أن يبدأ التحقيق معه. يوم استشهاده ذكرى وطنية للمقاومة وهكذا تحول هذا اليوم إلى ذكرى وطنية يحتفي فيها المغرب باليوم الوطني للمقاومة، في 18 يونيو من كل سنة، وهو يوم نتذكر فيه التضحيات الجسام التي قدمها محمد الزرقطوني وأمثاله من الوطنيين الصادقين الذين استرخصوا الغالي والنفيس في سبيل الذود عن حياض البلاد وحوزتها. واليوم أصبح من شبه المستحيل أن تجد شارعا أو مدرسة أو حديقة عمومية أو مستشفى أو مرفقا عموميا آخر في كل مدن المغرب، بل وفي بواديه، لا تحمل اسم محمد الزرقطوني، وأبرز مثال على ذلك شارع محمد الزرقطوني بالدارالبيضاء، الذي يعد من أهم شوارع العاصمة الاقتصادية.