يبدو أن الرغبة المحمومة من لدن أنصار الحريات الشخصية في تحول المغرب إلى بلد حداثي على شاكلة البلدان الأوربية وعلى رأسها فرنسا ، يجعلهم يركبون جميع الأحداث التي تقع بين الفينة والأخرى للترويج لآرائهم . وما خروجهم في الرباط وغيرها للاحتجاج على قرار محاكمة مراهقين قاما بنشر قبلتهما الحارة على مواقع التواصل الاجتماعي بالأنترنيت إلا دليل على ذلك . وقد شاهدنا ما حصل في مظاهرة أنصار القبلة من سباب وعراك بينهم وبين المعترضين حين شرع شابان، بالغان هذه المرة، في تقبيل بعضهما أمام الملأ . الأمر الذي أثار حفيظة بعض المواطنين غير المستعدين لتقبل مشهد تقبيل رجل لامرأة في الشارع العام بدون حياء. فالسائد في تقاليدنا وأعرافنا أن الشاب والفتاة المغربيين حينما "يسرقان" قبلة في الشارع العام وأمام أعين المارة فهذا يعني أنهما مستهتران ولا يرتبطان برباط الزوجية المقدس . هذا ما تأسس في فكر ووجدان المغاربة حتى مع افتراض وجود علاقة حب قوية بين هذين الشابين. ولا أعتقد أن أبا مغربيا أو أما مغربية ، مهما بلغت درجة تفتحهما، يقبلان برؤية ابنتهما تنخرط في قبلة "حارة" مع شاب أمام الملأ حتى ولو كانا مقبلين على الزواج . لنَعترفْ بالحقيقة ولنَقلْ إن محاولة نقل قيم أجنبية تأسست في الغرب غير ممكنة في ظل سيادة قيم تقليدية محافظة . من السهل نقل منتجات الصناعة التكنولوجية الغربية إلى وطننا العربي ، لكن يصعب نقل قيم تأسست في الغرب بعد مخاض عسير ، مثل قيم الزواج المثلي ، وقيم الإنجاب خارج مؤسسة الزواج بسهولة . المسألة ليست مسألة تأسيس أو تغيير قوانين بأخرى تستجيب لهذه الفئة الحداثية أو تلك . المسألة مسالة تغيير ذهنية وإعادة نظر في عادات وتقاليد قد تكون بالية لكنها واقع موجود على أية حال . لابد من صنع عصر تنوير عربي بمساهمة الجميع يعكف على إعادة النظر في بعض العادات والتقاليد والقيم السلبية شريطة الإجماع على سلبيتها . ويكفي أن أسوق هنا نموذج انتحار مواطن مغربي لعجزه عن توفير أضحية العيد لأسرته لأبرهن على ما أقول . إنه حادث مأساوي يتطلب من الجميع ، وبخاصة الفقهاء وعلماء الدين ، إعادة النظر في أمر هذه الشعيرة الدينية بإقناع جزء كبير من المسلمين المغاربة بأن نحر أضحية العيد ليس أمرا واجبا على الجميع ، أقول إيجاد خطاب إقناع وليس خطاب تذكير فقط لأن الجميع على علم بسنية عيد الأضحى لكن الأعراف أقوى من الدين في بلد تعاني فيه فئة كبيرة من الجهل والفقر. يمكن أن أسوق أمثلة كثيرة على عادات وتقاليد ترسخت في بلادنا العربية باسم الدين لكنها من الأعراف والتقاليد البالية التي تحتاج إلى إعادة نظر ، منها ما يسمى بجريمة الشرف في الأردن التي يقوم بها أحد أفراد عائلة المرأة بموافقة العائلة كلها. ومنها إسراع الأم المغربية التي تتعرض ابنتها للاغتصاب بالقوة أو بالتغرير إلى الطبيب ليكشف إن كانت ما تزال بكرا أم لا . بينما المفروض أن تحملها إلى طبيب نفسي ليكشف سلامتها النفسية قبل الكشف عن سلامة بكارتها .. لكنه الواقع الذي لا يرتفع . ولن يتم الانتقال بالمغاربة من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع حداثي بالمظاهرات الاستفزازية ( إعلان المثلية تعرية صدر المرأة نشر قبلات بين شاب ورفيقته أو بين زوج وزوجته ). ومع ذلك دعوني أعبر عن موقفي من متابعة المراهقين صاحبي القبلة المعلومة بالقول : إنه لعبث أن تتقدم جهة مدنية مطالبة بمحاكمة مراهقين وحتى شابين بالغين بتهمة الإخلال بالحياء العام لمجرد أنهما ضبطا يقبلان بعضهما في الشارع العام ، في الوقت الذي يعج فيه مجتمعنا بالظواهر السلبية الخطيرة . كان المفروض اعتبار ما حصل نزوة من نزوات الشباب، التي لاشك أنها تحصل يوميا في الخفاء، و ترك أمر علاجها لأولياء أمور المراهقين . فلن تستقيم الأخلاق بمحاكمة الناس أو سجنهم ، أو بوضع "شرطة" الأخلاق في كل مكان، فالمبادئ الدينية نفسها مبنية على الاعتقاد والاقتناع، ولم يطلب الإسلام من أحد أن يقتحم البيوت ويتابع المواطنين لاكتشاف حقيقة التزامهم بتطبيق الفرائض من صلاة وصوم والانتهاء عن المحرمات من زنا و خمر وغيرهما. نعم في بلد إسلامي المواطن مطالب باحترام المشاعر العامة بقوة القانون قبل قوة الدين . لكني لست موافقا على ما يقوم به رجال الأمن بين الفينة والأخرى من مطالبة كل رجل وامرأة يسيران أو يجلسان معا بما يتبث طبيعة علاقتهما، وبخاصة عندما تصبح الدوافع إلى هذا الإجراء دوافع ابتزازية. كما أني لست موافقا على ما يعرف بحملات الأمن على الفنادق والشقق الخاصة لاكتشاف كل رجل وامرأة تجمعهما علاقة جنسية غير شرعية، لأن من لجأ إلى فندق أو شقة خاصة، ولم يزعج أحدا يكون قد ستر أمره "من ابتلي منكم ... فليستتر" . وكما ترك الدين المرء الذي يفطر في رمضان عمدا لضميره الديني وترك باب التوبة أمامه مفتوحا ولم يطالب بفضح أمره مادام لم يجهر بإفطاره ، فكذلك ينبغي أن نترك كل رجل وامرأة أقاما علاقة جنسية غير مشروعة بالتراضي في مكان مستور بدون علم أحد، نترك أمرهما لخالقهما ولوازعهما الديني وبذلك ننسجم مع روح التشريعات الإسلامية التي تقوم أساسا على تغيير سلوك المسلم بالإيمان والتربية والاقتناع وتترك أمر المخالفين لها سرا لخالقهم، و نسد الباب من جهة أخرى أمام كل من يريد الركوب على مثل هذه الوقائع لنشر قيم بعيدة عن قيمنا وأعرافنا الإيجابية .