إذا ما قرأنا الأحداث الراهنة في العالم العربي قراءة تستند على التطور التاريخي (السياسي والاجتماعي والثقافي...) للشعوب والمجتمعات، سنستنتج أن ماتعرفه مصر ودول "الربيع العربي" مخاض طبيعي عرفته مرحلة ما بعد الثورات والتغيرات السياسية الكبرى والمؤثرة في العالم. بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 انقسم الثوار إلى جبهات ونوادي متصادمة ومتناحرة، وصلت حد الإغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية,انتهت بتصفية أهم رمز من رموزها الراديكاليين "روبسبييبر", والتي اعتبرت نهايةً رمزيةً لفكرة التغيير الجذري والسريع لطبيعة وبنية نظام الحكم السائد، حيث عاد الملكيون ومعهم البرجوازية إلى الساحة بتحالف مع العسكر بقيادة الجنرال نابليون بونابرت والذي تحكم وسيطر على زمام الأمور، لتدخل فرنسا حالة الدكتاتورية العسكرية المطلقة وهدوء في الشارع. هذه المرحلة عرفت بمرحلة "الثورة المضادة" سنة 1799, دخلت بعدها النخب السياسية والفكرية الفرنسية مرحلة إعادة ترتيب أوراقها وإعادة النظر في منهجيتها من أجل سلك طريق مضمون وإن كان طويلاً من خلال الثورة الهادئة المتدرجة. مرحلة عرفت تقلبات كبيرة في نظام الحكم الفرنسي مابين العسكري والملكي والجمهوري والبرلماني ثم الجمهوري البرلماني...تقلبات أثرت على الوضع السياسي الأوربي بأكمله نظرا لأهمية وثقل هذا البلد!! وضع مصر و أهميتها السياسية والثقافية والديموغرافية والإستراتيجية في العالمين "العربي والإسلامي" لا يختلف كثيرا عن وضع فرنسا في أوربا آنذاك!!،إذ لا يمكن أن تمر الأحداث فيها دون أن تأثر على محيطها الاقليمي، وما حدث في المغرب وتونس وتطورات الملف السوري إلا انعكاس مباشر للمخاض العسير الذي تعرفه مصر و إن اختلفت التفاعلات بحسب الظروف الخاصة لكل بلد على حدة . بعد مرحلة المخاض و الذي ستحاول خلاله قوى الانقلاب والردة و النكوص الديموقراطي بسط سيطرتها على المشهدين السياسي والأمني، وإن كنت أتوقع أن يبقى وضعها هشاً ومرتبكاً و قابلاً للإشتعال في أي لحظة،ستخوض الحركات التغييرية و الإصلاحية و في مقدمتها "الحركات الاسلامية" في مسلسل إعادة ترتيب أوراقها ومراجعة بنيتها التنظيمية و الفكرية والسياسية بدءًا بمراجعتها للعلاقة بين السياسي والديني خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، حيث أصبح من الضروري الوقوف مع الذات وقراءة الأحداث قراءة نقدية براغماتية بعيداً عن خطاب المظلومية العاطفي. الأحداث الأخيرة وحجم ما حصل في مصر، يدفعنا للخروج من حالة الجمود الفكري وطرح تساؤلات جوهرية من قبيل: هل ستشهد مصر و معها دول ما بعد "الربيع العربي" مساراً مشابهاً لما عرفته فرنسا وأوربا في القرنين الثامن والتاسع عشر? ما هي الأخطاء التي ارتبكتها "الحركات الإسلامية" ليصل الوضع إلى ما وصل إليه حالياً، و ما النتيجة والدروس التي يمكن لهذه الحركات استخلاصها بعد هذه المدة القصيرة من ممارستها للسلطة?وهل كانت مستعدة سياسيا وتقنيا لتسيير شؤون هذه البلدان؟ هل ستبدأت "الحركات الإسلامية" وخصوصا المصرية منها في تبني ما يصطلح عليه "العلمانية التنظيمية التقنية الفاصلة تنظيميا بين الديني والسياسي" العاملة بمبدأ "المرجعية, إسلامية في إطار التوجه العام للمجتمع ولكن في الأداء الواقعي اعط ما للدعوي للدعوي وما للسياسي للسياسي؟ هل سنشهد تحولا بنيويا في الفكر والأداء السياسيين "للحركات الإسلامية" يجعلها تصنف ضمن التيار الليبيرالي ذو النكهة العلمانية التقنية المعتدلة? إذا مررنا سريعاً ودون الخوض في التفاصيل سنكتشف أن الأحزاب ذات المرجعيه أو النكهة الاسلامية، كلما فصلت بين السياسي و الديني (الدعوي) كلما كان أداؤها السياسي قوياً وفعالاً ومنتجاً خصوصاً في حالة تسيير شؤون المجتمع, وما نموذج تركيا إلا دليل على صوابية هذا الطرح، وتبقى تجربة المغرب ناجحة ولو بشكل نسبي نظراً لحداثتها لكن على الأقل حزب العدالة و التنمية وحركة التوحيد والاصلاح قد حسما في مسألة التخصصات ورسم الحدود التنظيمية بينهما ومستمران في الاشتغال على تطوير هذا التوجه نظراً لفعاليته. المشكل يتجسد في الممارسة و الأداء اليومي و الذي يخلط بين الدعوي والسياسي بشكل عبثي يضر بالسياسة و الدين معا، و ليس في المرجعية الإسلامية كقاعدة لاستنباط واستخلاص المبادئ المحددة للرؤية السياسية الديمقراطية المعاصرة المتماشية والمنسجمة مع تقلبات ومتغيرات المرحلة. هذا هو التحدي المطروح،الفصل في الإسلام بين المرجعية المؤطرة للتوجه السياسي و بين الدين كمؤطر لسلوكات الأشخاص(خصوصا الأخلاقية) في علاقتهم مع أنفسهم ومجتمعهم وربهم. لا يمكن إخضاع السياسة والإقتصاد والتعامل معهما بمنطق الحلال والحرام،فهذا منطق فضفاض مجرد عن الواقع وأضرب لكم مثالين، هل يمكن طرح السؤال الآتي: ما حكم الشرع في علاقة بنكيران وعلي العريض أو أردوغان مع البنك الدولي المبني في تعاملاته على الربى واستنزاف الشعوب؟ أو ما حكم الشرع في التحالف القائم بين حزب العدالة والتنمية والتقدم والإشتراكية ذو الخلفية الشيوعية؟ مجرد التفكير في الأجوبة يدخلنا في دائرة العبث والفوضى الفكريين. أصبحت السياسية والإقتصاد سوقا وبورصة عالمية وملتقى لكل الإتجاهات السياسية والفكرية يرتبط فيها وبها الجميع،وقضاء المصالح فيها هو المحدد الأساسي للأداء الفعّال. عدم استيعاب هذا الواقع وإن كان مريرا أحيانا، يعد انتحارا سياسيا وإسراعا في دفن مشروع مازال في بداياته ولنا في التيارات اليسارية الماركسية خير دليل. سياسياً الانتقال إلى ما بعد "الحركة الاسلامية" أصبح واقعاً و ضرورةً ملحة، لتجنب إعطاء الفرصة من جديد لقوى الإستبداد كي تضيع علينا الانتقال الديمقراطي المنشود. و المستقبل سيكون للأحزاب الحاملة للمشروع السياسي الخدماتي البراغماتي المُقْتَرِحْ لحل المعضلات الإجتماعية والإقتصادية،وليس للاحزاب الغارقة في العمى الإيديولوجي الإسلامية منها و العلمانية ا والتي أغرقتنا بالخطابات الفضفاضة والأفكار الضبابية دون قيمة مضافة تذكر. ملحوظة: لم أجد بديلاً عن مصطلحات من قبيل "العلمانية والليبرالية" لاستعملها من أجل إيصال الفكرة،فهذا هو المتاح في القاموس السياسي العربي في الوقت الحالي. عندما أتحدث عن ضرورة الإنتقال إلى ما بعد "الحركة الاسلامية"، أقصد بذلك السياسية منها و التي مازالت تمارس دوراً دعوياً تربوياً، أما الحركات الاسلامية الدعوية الخالصة فغير مقصودة و وجودها ضروري في مجتمعاتنا ما دام نقيضها موجوداً.