تتثاقل أنفاسي وأنا أمر بجوار بائعة المنديل .. تسرقني بلمحة من عينيها الذابلتين وشعرها المنفوش المنكوش، تمزقني بيديها الصغيرتين المنداتين برائحة الحناء، تجر رجليها المنتعلتين حذاء يشبه الخفين، صنع ليكون حذاءً لكنه أبى إلا أن يصل خُفين إلى قدميها . وتقف أمامي مثل طير مبتل الأكمام يحاول الاحتماء من مطر لم يهطل إلا ليقول للناس إشتروا المنديل من الصغيرة قبل أن يبتل ! .. وتمد لي المنديل قائلة: "كلينكس اسيدي " ، ينعقد لساني ولا أجد إلا كلمة لا ...! لكن .. لحظة .. تعالي .. ! كتب الله عليها جمالا لا يرى بالعين المجردة، إنما يُرى بعين لا تعترف بقانون الجمال عند البشر، بل بقانون من لا يُعتبرون أنهم من البشر .. غريبة هي ابتسامتها بعينيها المعمشتين، ووجها اليابس وسحنتها الداكنة، هي ابتسامة مخطوفة من وجوه الأطفال، بل هي مسروقة من وجوه الأيتام، هي ابتسامة لم تكن للأطفال يوما بل كانت للمعذبين في أرض لم تكن يوما أرضهم، هي ابتسامة تطلب الرجاء ويحذوها الأمل لا لمنزل كريم أو حلوى نقية أو دفتر مع قلم، بل هي ابتسامة تطلب شراء "كلينكس" بدرهمين ! بلباسها الرث المتسخ والمنكمش، تتقاذفها الأيادي من شخص إلى آخر يمتنعون شراء "المحارم"، وكأنها تطلبها صدقة منهم، والأغبياء.. أن الله أرسل لهم صدقة ليُكَفروا بها عن ذنوبهم ويزكي لهم بها أعمالهم، والصغيرة بجهلها لا تعلم أنها تقف أمامهم كإشهاد لهم يوم لا يكون الملك إلا لله، ويقولون: ليت فتاة المحارم مرت من هنا ! "تُوبة" هكذا سماها أبوها قبل موته، لم يختر هذا الاسم بقدر مجهول، إنما بقدر معلوم، اسمها "توبة" ليعلن كل إنسان توبته في كل نظرة لها، وفي كل مناداة باسمها، التوبة من عمىً في القلوب، أعمت عيون الناس أن يعلمو أن الله إن أكرمهم بطيب المقام والكفاف عن الناس أن تحن قلوبهم لأناس كان قدرهم أن يكونو على أعتاب المنازل .. وعلى أرصفة الطرقات .. سألتها ماذا تتمنين ؟ قالت أن أذهب إلى المدرسة !! أحسست كأنها قالتها ويدها الصغيرة تصفعني من خد الأيمن لتعديه بصفعة أخرى على خدي الأيسر ! تتمنين الذهاب إلى المدرسة ؟! ألا تدرسين ؟ لا استطيع الذهاب إلى المدرسة لأنه ليس لدي دفتر الحالة المدنية ! ولماذا تبيعين المحارم ؟ لأداء أجار البيت ! غريب أهل هذه الدنيا، يموت فيهم الصغير ليعيش الكبير، يسرق فيهم الوضيع ليعذب الشريف، يُذل فيها الفقير ليعز فيها الملك ! فلا عزة لغني إلا بذل فقير، ولا سلطة لمتجبر إلا بإنسان ضعيف ! هكذا أرادونا أن نكون وهكذا كنا لهم . عفوا يابنتي فقد كان أولى أن تبيعي الشرف قبل المحارم !