إذا أردنا أن نفهم ماهي الثورة، وما انطوت عليه عموماً، بالنسبة للإنسان العربي، ككائن سياسي، وأهميتها بالنسبة للعالم الذي يعيش فيه، علينا الرجوع إلى اللحظات التاريخية الأولى، حين بدت الثورة في أجلى مظاهرها، واتخذت شكلاً محدداً، وبدأت نشر سحرها في عقول المواطنين، بشكل مستقل عن الانتهاكات والقسوة والحرمان من الحريات والحقوق التي أعطت الناس السبب لأن يثوروا. يتصاعد تيار الثورة الجبار، كما يقول روبسبيار، باستمرار "بفعل جرائم الاستبداد من جهة، وبفعل تقدم الحرية من جهة أخرى، اللَذَين كان يحث أحدهما الآخر بشكل محتم"، فالثورة، بهذا المعنى، تجد جوهرها بوصفها استجابة لوضع تاريخي، تتحرك ضمنه الشعوب من أجل التقدم نحو ظروف أكثر إنسانية وعدلاً وحرية، فقد برهنت الثورة الفرنسية (1789)، مثلاً، لأتباع سان سيمون، ثم ماركس بعدهم، أن الثورة من مراحل التطور التاريخي، وأن حتمية الحركة الثورية تكمن في عدم ملاءمة النظام القديم، وضرورة استبداله بنظام آخر، أكثر فعالية وتعبيراً عن جماهير الشعب. وقد تضمنت مجريات أحداث الثورة الفرنسية إسهامات مهمة في تطوير مفهوم الثورة، لتمثل تكثيفاً منقطع النظير عما تحققه الثورات من نجاحات، وتقع فيه من مطبات، بداية من القضاء على حكومة قديمة، واستبدالها بحكومة أخرى جديدة، مروراً بانقلابات الثورة المضادة، وصولاً إلى التجييش الذي قامت به الأنظمة الملكية الأوروبية لإجهاض التجربة الفرنسية، قبل أن تنتهي إلى صورتها شبه المكتملة، بعد عقود، وتحقيق النظام الجمهوري. غير أن ما جرى في ظل الثورات العربية أنها حاولت اختصار الزمن، رغبةً في بناء البدائل المناسبة للأنظمة المنهارة، وربما كان هذا التسرع من العوامل المركزية التي جعلت الحراك الثوري يتأخر، ويقع في مطبات العجز، حيث يمكن تعداد أسباب ساهمت في هذا التعثر. أولها، سرعة تحول بعض الثورات إلى مسار انتقال ديمقراطي، والتعامل مع الأوضاع القائمة، خارج الرؤية الثورية، وإنما من خلال توافقات مع رموز النظام القديم، وهو أمر لاحظناه في الثورات التونسية والمصرية واليمنية، ففي تونس، بقي فؤاد المبزع رئيس برلمان زين العابدين بن علي مصدراً للشرعية طوال الفترة الانتقالية، أي إلى حدود انتخابات المجلس التأسيسي (23 أكتوبر/تشرين أول 2011)، ما منح الفرصة للقوى المضادة للثورة لإعادة التشكل وبناء ذاتها، بصورةٍ منحتها، في فترة وجيزة، قوةً لم تكن لتحلم بها. وفي الوقت نفسه، دخلت القوى الثورية في حالة تنازع حزبي وصراع على كعكة سلطةٍ، لم يتم استخلاصها بعد من أنياب الدولة العميقة. وفي مصر، سرعان ما تم تسليم الثورة التي مثلت حلماً للقوى الشبابية والحزبية للمجلس العسكري الذي حافظ على الجزء الأهم من النظام، وهو بنية المصالح الاقتصادية والنفوذ المتشعب داخل المجتمع المصري، انتظاراً للحظة حاسمة، للانقضاض من جديد على السلطة، وهو أمر لم يحسن الوافدون الجدد على السلطة بعد الثورة التعامل معه، من جهة تصور أنهم في وضع ديمقراطي طبيعي، يسمح بالمنافسة الانتخابية، على الرغم من أن الدولة العميقة الواقعة في حضن العسكر مازالت تملك كل شيء. ومن حيث ظهور قوى لم تؤمن يوماً بالثورة، لكنها أصبحت، بعدها، لاعباً ضاغطاً بمطالبها، ذات المنحى الضيق. ونعني، هنا، حزب النور السلفي الذي ملأ الساحة ضجيجاً بالحديث عن تطبيق الشريعة والصراع مع العلمانيين، وكأن أمر الثورة محسوم، أو أن الناس ثارت انتصاراً لخياراته الأيديولوجية، لنكتشف، في النهاية، أن العسكر أحسنوا التلاعب بالجميع، وليضعوا القوى التي اشتركت فترة في مواجهة استبداد حسني مبارك في مواجهة بعضها بعضاً، وليتم إسدال الستار على المشهد بانقلاب عسكري، بمباركة قوى كانت تصرخ يوماً "يسقط حكم العسكر". وشهد النموذج اليمني خروجاً آمنا للرئيس السابق، وبقاء أهله وأتباعه فاعلين في المشهد السياسي، يعطلون مسيرة الإصلاح، ويستمدون القوة من حلفاء إقليميين، لا يريدون لثورة اليمن أن تصل إلى ما يصبو إليه الشعب، من حرية وكرامة وعدل، قبل أن يتم توظيف الطائفية السياسية في أسوا مظاهرها، للانقلاب على كل التوافقات، وإدخال البلاد في فوضى وعنف. ثانياً، هناك ثورات انزاحت إلى حرب أهلية، وتمردات عسكرية واسعة، ما فسح المجال لتدخل أجنبي معلن، مع ما يعنيه من فرضه أجنداته واشتراطاته، مع ما يصحبه من خراب واسع لبنية المجتمع نفسه، وهو أمر نلحظه في الثورتين الليبية والسورية، وإذا كان ثوار ليبيا قد حسموا الصراع مع حاكمهم، فإنهم، اليوم، يعانون من تفجر حالة من العنف والصراع، تغذيها أجندات إقليمية ودولية، تحدوها الرغبة في تفكيك ليبيا، في ظل العجز عن إيجاد حكومة مركزية قوية، قادرة على السيطرة أمنيّاً، وإعادة التماسك الاجتماعي إلى صورته الاعتيادية. أما الوضع السوري فيبدو أكثر سوءاً، من حيث تورط الحراك الثوري في نوع من الفصائلية والتنازع الفكري وتشتت المجموعات واختلاف الغايات والأهداف بين مسلحين في الداخل وناشطين سياسيين في الخارج، مع تدخل أجنبي واضح، بالإضافة إلى تفككٍ، ليس فقط في الدولة، وإنما في البنية الاجتماعية نفسها، مع ظهور نزعات الطائفية والعرقية، وتمدد جماعات مسلحة من خارج الدولة نفسها. كل هذه النتائج نجمت عن غياب الرؤية الواضحة لغايات الحراك الثوري الذي بدأ فعلاً شعبيّاً في الشوارع، وانتهى إلى صراع مسلح، يفتقر إلى البوصلة، على الأقل لدى فصائل تقاتل، لتحقيق أجندات وخياراتٍ، أقل ما يقال عنها، إنها لم تكن المحرك الفعلي للثورة في بداياتها. ثالثاً، خلافاً للثورات الكبرى في التاريخ، لم تأخذ الثورات العربية، إلى الآن، مداها الأقصى، بمعنى أن مسارعة بعضهم إلى تصور إمكانية الانتقال من الثورة إلى الدولة نوع من الوهم السلطوي، لم يخدم غير القوى المضادة للثورة، وكما يقول هيجل "خيار السلطة المستبدة يصبح مرجحاً، عندما يفشل المجتمع في استنباط نظام عمل إجماعي لإدارة شؤونه العامة"، بمعنى أن خيار العودة إلى الاستبداد قد يصبح واقعاً، في لحظة من المسار الثوري، عندما تصطدم شرائح من المجتمع بالوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور، خصوصاً عندما تصاب الثورة بحالة ارتكاسية، وعندما لا يستطيع المجتمع تصعيد الثورة، ويصبح الخط الثوري مفككاً، ويتوق جزء من الشعب إلى الاستقرار، وتسيير عجلة الاقتصاد ثانيةً، والتمتع بالأمن الشخصي. ويصف برينتون هذه المرحلة بأنها فترة "نقاهة ما بعد الحمّى". وقد يفضي الوصول إلى مثل هذه الحالة، أحياناً كثيرة، إلى حصول ردة، ويستولي أتباع النظام السابق على السلطة، كما فعل الانقلابيون في مصر، أو حتى العودة انتخابيّاً، كما جرى في تونس، إلى حد ما. لم تتوقف مسارات الثورة في البلدان العربية، وإن شهدت حالة من الجزر، بفعل التحالف الحاصل بين قوى الثورة المضادة في الداخل والدعم الخارجي الذي يسعى إلى إطاحة كل نفس ديمقراطي، والأدوار المخربة التي تسعى إلى تحويل الثورات حروباً أهلية دامية. وتجب الإشارة، هنا، إلى أن الثورة في سبيل الحرية لا تضمن بناء الديمقراطية دائماً، لأن عملية الديمقراطية معقدة من الموازنة بين العام والخاص، والرقابة على السلطات، كما توجد دول تحققت فيها الديمقراطية من دون ثورةٍ، كندا مثلاً، حيث استطاع المجتمع المدني هناك من تنظيم نفسه بنفسه، في حلول سلمية ووسط مساومات مع بريطانيا، ثم استقل عنها من دون ثورةٍ. وفي المقابل، ثمّة ثورات تحولت كوابيس فعلية لشعوبها، ولم تفض إلا إلى الفوضى، أو إلى الاستبداد في أكثر صيغه عنفاً ودموية. لم تفشل الثورات العربية في بلدانها، لكنها تعاني من تعثرٍ في مساراتها، بوصفها تحولاً جذريّاً. وقد كتب هيجل في "العقل والثورة" إن الثورة هي "على الأوضاع القائمة، وإنها حركة تتسم برفض وإنكار ما هو قائم فعلاً، وإعادة لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس عقلاني"، وهو أمر لا يمكن أن يتم في زمن وجيز، أو من دون تضحيات وآلام ودماء، وهو ما ينبغي أن تعيه القوى السياسية المختلفة، ونعني بها المؤيدة للثورة تحديداً، وهو أمر حاصل فعلاً، في استمرار الحراك الثوري في مصر، مثلاً، واستمرار الوجود المؤثر للأحزاب الديمقراطية (بتلويناتها الإسلامية والعلمانية) في تونس، وحفاظها على المنجز الديمقراطي. فشلت النخبة السياسية في بلدان الثورات العربية في استيعاب ضخامة الحدث، بما فيها القوى الإسلامية التي تصورت أن الأمر يتعلق بمواقع سلطوية أصبحت شاغرة، بينما يتعلق بحالة تحول جوهري من بنية استبدادية، تغولت وترسخت أسسها، طوال عشريات من حكم الحزب الواحد، أو الطائفة، أو الطغمة العسكرية، ما جعل الترتيب الفعلي للحراك الثوري ينبغي أن يبدأ من الأساس البنائي للمجتمع نفسه، وصولاً إلى تفجير بنية السلطة القهرية التي تلازمت مع شرائح اجتماعية متنفذة، ما يستدعي بناء قاعدة شعبية عريضة، تجد مصلحتها في استمرار الحراك الثوري، من دون الاكتفاء بالتنازع على بعض مغانم الحكم الزائلة، لأن الثورة الفعلية لا نتحدث عن اكتمالها إلا عند انتصار منظومة فكرية/قيمية جديدة، لتطيح المنظومة القديمة، وتُفقدها أسباب الاستمرارية والبقاء. * كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي