حينما انتفضت الشعوب العربية ب"حراكها الشعبي" الجارف خلال السنتين السالفتين فيما سمي ب"الربيع العربي"، واستطاع هذا "الربيع" ان ينفذ إلى المفاصل العميقة لعروش الحكام الذين قام في بلدانهم، وانتهى بإسقاطهم؛ انبرى بعض منظرينا من المفكرين والمثقفين العرب والأمازيغ المسكونين بأدبيات "الثورة المُؤَسَّسَةُ" المتعارف عليها عبر تاريخ الثورات المعاصرة بالثورة التي تقودها وتؤسس لها طلائع الشعوب ونخبها الفكرية والعلمية والسياسية و القيادات العمالية المنقبة ( البروليتاريا عند الماركسيين)، والتي تستهدف التغيير الجذري لنظام الحكم، وانتزاع السلطة من أيدي الطبقة الرأسمالية المتوحشة/ أو البورجوازية الإقطاعية الحاكمة، وتمكين الشعوب الكادحة منها، لبناء الدولة الجديدة على قواعد وأسس مختلفة، وقيادات شعبية ثورية، ... قلت: انبرى هؤلاء يقدمون مقارنات ومشابهات بين هذا"الحراك" وهذه"الثورة"، وانتهى غالبيتهم إلى أننا أمام مرحلة جديدة لقيام ثورات عربية ستعم كل بلدان العالم العربي، دون استثناء، مادامت دواعي ومسببات قيامها قائمة في كل الربوع . فسمعنا وقرأنا لمن يهاجم بقوة "نظرية" الاستثناء المغربي، ويعتبر المغرب في غير منجاة من قيام الثورة، بلويدعو لتحويل الحراك الشعبي السلمي إلى ثورة بالمفهوم الآنف !!. فهل ثمة نقط التقاء وتشابه تجمع "الثورة المُؤَسَّسَة" بمفهومها التاريخي والسياسي ، بما هي:" قيام الشعب بقيادة نخب وطلائع من مثقفيه لتغيير نظام الحكم بالقوة"، و"الحراك الشعبي " الذي عرفته الدول العربية خلال السنتين الماضيتين، منها المغرب؟. وهل يمكن أن نعد ما حدث في هذه الدول ثورة بمفهوم الثورات التي عرفها التاريخ السياسي للشعوب عبر العالم (الثورة الإنجليزية 1689- الثورة الأمريكية 1763- الثورة الفرنسية 1789- الثورة الروسية (البلشفية) 1917- الثورة المصرية 1919- ثورة العشرين في العراق 1920- الثورة الماوية 1949- الثورة الإيرانية 1979 -...)، أم هو مجرد"حراك" عفوي ومندفع، استُغِلَّ من قبل جهات معارضة كانت لها حسابات مع الأنظمة الحاكمة، وركبت هذه الهبَّات الجماهيرية لتحقيق مآربها ؟ والحقيقة أن الحراك الشعبي الذي أسقط الحكام في الدول المستهدفة لم يكن سوى هبات شعبية عفوية بدون أي أجندات سياسية أو إيديولوجية واضحة. والدليل أن لا أحد من نخب المجتمعات العربية وطلائعها الفكرية والسياسية وحتى العسكرية، ادعى أنه هو صاحب الفضل في قيامها، أوالإعداد لها، أو الدعوة إليها؛ حتى شباب الفيسبوك ينأون عن أنفسهم أن ينسبوا لها هكذا "فضل" !. إن المتأمل في الثورات التي عرفها التاريخ السياسي عبر العالم يستتج أن هذه الثورات قد استهدفت الأنظمة السياسية في بُناها الوجودية، وانتهت إلى تغييرها تغييرا جذريا، لم يقف عند حدِّ إحداث تغييرات تجميلية على مستوى البُنى الاجتماعية والاقتصادية أو تغيير الأشخاص فقط، كما حدث مع "الثورات" التي عرفتها بلدان "الربيع العربي"، و التي لم تفلح إلى حد الآن في تغيير الأنظمة التغيير الجذري المطلوب، وإن كانت قد أفلحت في إسقاط رؤوسها. والسبب يعود في اعتقادنا إلى أن هذه "الثورات"/ الهبَّات، قادتها شعوب وحركات شبابية مستقلة عن التوجهات السياسية والإيديولوجية الكبرى التي تؤطر المنظومة السياسية والثقافية للمعارضة في هذه البلدان. وحينما نقول: "مستقلة"، فمقصودنا من ذلك أنها حينما تحركت، لم تتحرك تحت أي يافطة سياسية أو فكرية أو إيديولوجية موحدة كما هو شأن "الثورات المُؤَسَّسة". فالهبَّات الجماهيرية التي انطلقت من تونس/البوعزيزي- مثلا- وانتهت بهروب الرئيس، لم تكن بأجندة ثورية تبغي تغيير النظام التغيير الجذري ولا حتى إسقاط الرئيس في المرحلة الأولى لقيامها. أي أنها لم تكن بترتيب مسبق ذي أجندة واضحة، وبديل للحكم محدد وواضح تبغي تنزيله حال صعودها إلى سدة الحكم. ولكنها اندفعت إلى الشارع- في البداية- بهدف واحد ووحيد هو: التنديد بالاستبداد، و"الحكرة"، ونشدان العدالة الاجتماعية والكرامة، وانتهى بها الحراك إلى إسقاط الرئيس. لكنها لم تفلح في تغيير النظام الجمهوري الاستبدادي. كما أنها لم تستطع تحقيق الديموقراطية إلا بشكل جزئي إبان الاستحقاقات التي تلت هروب الرئيس. لأنها "ثورة" جاءت طارئة على وضع لم يكن مهيئا لها. كما أنها بدأت هبَّة جماهيرية، وحَرَاك شعبي. لكنها حينما بدأت تتخذ شكل "الثورة"، بدأت أطراف متعددة تتنازعها، مما أفقدها زخم "الثورات المُؤَسَّسَة" على مستوى النتائج، فسهل سرقتها من قبل أطراف، بعضها لم يشارك فيها البتة !!. ليكتشف الشعب – في الأخير- أن دماءه التي سالت من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، قد ذهبت هدرا، و أن "ثورته" المجيدة قد تعرضت للسرقة. مما أحْوَجَهُ إلى "ثورة" مضادة !!!. والملاحظ أن هذا النوع من الحراك/"الثورة" يختلف كامل الاختلاف عن مفهوم وشكل الثورة في التاريخ السياسي للثورات المُؤسَّسة التي قامت بهدف المواجهة الشاملة مع الأنظمة الحاكمة، وضد مشاريعها الإقطاعية والاستبدادية. كما كانت مقودة من قيادات سياسية وفكرية وعسكرية تحمل بدائل واضحة لنظام الحكم (النظام الشيوعي- النظام الليبرالي- النظام الاشتراكي الديموقراطي- النظام الجمهوري العسكري الانقلابي - النظام الإسلامي مع الثورة الإيرانية - ...) ضد أنواع وأصناف من الحكم الاستبدادي (النظام الاقطاعي البرجوازي – النظام الرأسمالي المتوحش- النظام الثيوقراطي (الكنسي) الشمولي- ...). أما المغرب فقد عرف نصيبه من الحراك الشعبي بأجندات مطلبية أقل، وبسقف مطلبي لم يتجاوز المطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد، وتحقيق العدالة الاجتماعية. إذ لم يثبت قط أن حركة 20 فبراير دعت في أي بيان من بياناتها إلى "الثورة المُؤَسَّسة" بمفهومها الآنف، اللهم بعض الفلتات غير المحسوبة التي استغلت الهبات الجماهيرية التي عرفتها المدن المغربية، للتنفيس عن حالات احتقان شاذة تشكلت لديها من جراء قراءات ونقاشات حبيسة صالونات فكرية ولدت لديها قناعات سياسية وإيديولوجية، وجدت في الحراك الشعبي ما يشفي غليلها في البوح بها، كما وجدت في العالم الافتراضي ( الفيس والتويتر...) المتنفس "الآمن" لتصريف هذه "المكبوتات"، والدعوة إليها، وإن كان الواقع المغربي ليس ميسرا –الآن - لقبول هكذا "عروض"، فضلا عن توفير الظروف الموضوعية لإنجاحها. ولعل "نداء 13 يناير" الهلامي المهزوز وغير المحسوب، والذي ظل حبيس عالمه الافتراضي؛ يبقى أحد أوضح الأمثلة على ذلك. وأخيرا، لا بد أن تعي الشعوب أن "الثورة المؤسسة" لا تأتي دائما بالخير والرفاه والعدالة الاجتماعية، خصوصا تلك التي تنهض في غياب الشروط الموضوعية (على حد تعبير الماديين الجدليين) لقيامها، أو الثورات التي تقودها العساكر وتنتهي بالانقلاب على الحكم المدني. فغالبا ما تتحول إلى ديكتاتوريات استبدادية تحول حياة الشعوب إلى جحيم لا يطاق. والأمثلة على ذلك، قديما وحديثا، أكثر من أن تحصى. .