عجيب أمر البلاد العربية في سياق "الربيع" الذي هب وأورق بغتة في جل الأمصار. كيف فاز التيار الإسلامي هنا وهناك، بالمقاعد والغنائم، وتسنم ذرى السلطة والسلطان في مصر، وتونس والمغرب، والبقية آتية؛ على رغم وقوفه ضد "الثوارت" والهبَّات، مجاهرة ومكاشفة، وبالفم المليان. هذا ما فعله بن كيران إزاء هبة 20 فبراير التي كان لها ما بعدها، إذ اختصرت زمن المطالب، و"المذكرات" المرفوعة، والرغائب، ولعبة الغماية مع النظام الذي سارع إلى الاستجابة، وتلبية بعض مطالب الشباب، ومطالب قوى اليسار الإصلاحي، واليسار الجذري الذي تغلغل وسطها، وَبَوْصَلَها في مجموعة من المحطات. من دون أن ننسى "العدليين"، جماعة العدل والإحسان، التي امتطت الهَبَّةَ، ولم تنجح في تجذير مطالبها، وَحَرْفِها إلى "القومة"، والقطع مع مظاهر التبدع والكفر، والتهتك فيما ترى، الأمر ينطبق –أيضا- على مصر، إذ عبر "الإخوان" و"السلفيون" عن عداء للثورة الشبابية الرائعة، وتموقف عدواني حيالها، وتأليب "العسكر" أحيانا، عليها، من خلال حياد التيارين الإسلاميين المذكورين، المخدوم، والصمت المريب و"المدفوع" فيما جرى لشبابها من تقتيل، وتشويه، وخرم للعيون، وسحل لبناتها. ولا ينبغي أن ينسينا موقف "الإخوان" حاليا، من محاكمة مبارك، وموقفه من العسكر، ما فعله بالأمس، إذ أن الانتهازية، والتهافت على الحكم بكلتا القبضتين، هو المبدأ الثابت في مواقفه. ثم، لماذا يعيش اليمن تخبطا وجوعا مريعين : "القاعدة" المتأسلمة، تعيث فسادا وإجراما في جنوبه، وبعض ضواحي شماله، ووسطه؟ وليبيا التي هللنا ل "ثورتها" التي قامت في وجه القذافي المأفون والمقتول، على رغم استقوائها ب "الناتو"؟ أين وصلت "ثورتها" الآن؟ وهبات شبيبتها، ونخبها، وطبقتها المثقفة، وآمالنا معها، تلك الآمال التي عقدناها على أهدابها، في أن نرى قيام جمهورية ديمقراطية فتية، تبدأ واثقة بمباركة العالم؟ ماذا جرى لها؟ هل نصدق ما كان يتسرب –بين الفينة والأخرى- من أن "القاعدة" متغلغلة وسطها، والإسلاميين المتشددين الجفاة هم وقودها، ومن يقودها؟. ها هي –الآن- تصل إلى النفق المسدود، وترتطم قويا بالجدار. وبات واضحا أن العصبية القبلية، والنعرة "الجاهلية" والتناحر "الطوطمي" يحفها، ويدنيها من الظلام، والمصادرة، وإقرار "الحاكمية"، وسوط الصوت الواحد والوحيد؟ ألم تكن أول هدية يجزيها رئيس المجلس الوطني الانتقالي، إلى العالم، قوله بأن الثورة تستحق "تربيع" النساء؟ وكان امتعاض كوني من لدن الديمقراطيين والحداثيين، أعقبه ذهول؟ لنعد إلى ما بدأنا به كلامنا، وهو : كيف أمكن للتيارات والجماعات الإسلامية، أن تتربع على العروش بالكروش المعلومة، وتقطف فاكهة "الثورة"؟ إنْ في مصر أو في تونس أو في المغرب، أو في اليمن "السعيد"؟ ما تفسير ذلك؟ هل نعتصم بالخلاصات التي توصل إليها نخبة من المثقفين، والتي مفادها أن هذه "الثورات" لم تكن "ثوارت" بحقيق المعنى، وصحيح الدلالة والترتيب. إذ الثورة رَجٌّ عميق للأوضاع، مثلما هي إسقاط –في نفس الآن- لنظام استبدادي، شمولي، وظالم، ومراجعة حافة للبنى السائدة على مستوى العقليات، والذهنيات والأفكار والمسلكيات. ومن ثم، فالأنسب للتوصيف أن نطلق عليها "انتفاضات، وَهَبَّات، أو حراكا شعبيا عاتيا، ضم كل الأطياف والشرائح الاجتماعية والنخب السياسية والثقافية، وتقدمها الشباب أٌولٌو عزم وبأس، وقوة عضلية، وعقيرية، وفايسبوكية وتويترية !! ما أعقب الهبات هذه، وما يجري –الآن- أمام أعيننا – نهارا جهارا- يزكي الطرح الأخير، ويفند مزعم "الثورة" التي لم يحن أوانها بعد. وإلا فإن الهبات والانتفاض، مهاد حتمي لها، إن نحن راهنا –على نهر الزمن المتدفق، والبذار التي يلزمها شعاع ضوئي، وَكْلُورُوفِيلْ لتينع خضراء باسقة، وسامقة بعد حين. ومن ثم، فالعالم العربي يحتاج إلى زمن مزمن، زمن استثنائي، زمن قد يطول، لا مفر، يتوجب خلاله، أن تنتشر الأفكار الجديدة، ويتشرب المجتمع، بكل أطيافه وفئاته، وطبقاته، مفهوم الديمقراطية الحق، والعدالة الاجتماعية التي لا مناص منها، إذ هي أُسُّ الكرامة البشرية، الشيء الذي يتطلب تجذير مراجعة النظام التربوي والتعليمي العام، وتحميس ودعم البحث العلمي، واستئصال آفة الأمية التي تشكل –كما لا أعيا من التكرار- مرتعا خصبا لانتشار الغيبيات، والبدائل الميتافيزيقية الفردوسية (بالمعنى السلبي لكلمة ميتافيزيقا)؛ وأرضية مواتية لتخدير العقول بالمرجعية الدينية الوهابية التي تمتح من البنية الإنغلاقية، والمعادية للتقدم والانفتاح والاختلاف، بنية ابن تيمية: (أبو الصحوة الإسلامية) كما وصفه الأستاذ راشد الغنوشي ، فتأمل !!. ولعل الاهتمام والإنهمام، والإنشغال "الأنطولوجي" بهذين المُقَوِّمين، مقوم التعليم، وآفة الأمية، أن يكون مدخلا ومفتاحا لاجتياز العتبة، وولوج مجتمع المعرفة، مما يفضي إلى بروز الوعي الحياتي، والوعي النقدي، والقدرة على الانتفاء، والإصطفاء والاختيار، ومعرفة ما ينبغي، وما لا ينبغي، وإدراك الحقوق كما الواجبات الفردية، والجماعية، من أجل بناء حياة قوامها:المساواة ،والتعاقد، والتشارك، وتحديد المسؤوليات، ورسم ملامح المستقبل المتوخى والمنشود. لم ينبثق ما اصطلح على تسميته ب "الربيع العربي"، من فراغ، كما لم يكن صُدْفَوْيًا جاء عقب اشتعال جسد إنساني. مخطيء من يقول بهذا لأنه يمسح بجملة طائشة، ما بناه، وشيده بناة عظام، عَنِيتُ: ما خطته أقلام رجالات أفذاذ، كان حبرها : معاناتها، وعذاباتها، وآلامها، وسهرها الشهور والسنين ذوات العدد، وهي تقيس واقعنا بواقع الأغيار، من أجل أن ينهض العرب من نومتهم التي عمرت، وينخرطوا في العصر عن طريق الأخذ بأسباب الحضارة، والنظر إلى المستقبل، مع نبذ الماضي، والكف عن تمجيد القيم البالية، والمُثُلِ التي انتهت بانتهاء شروطها التاريخية في زمكان معين. كان ، إذآ ، حبر البناة الأماجد، دَمَهُمْ. وليس من شك في أن شُهرة أدباء ومفكرين ومبدعين بأعيانهم، ساهمت في تلقف منتوجهم الكتابي، والإقبال عليه قراءة، واستيعابا، وتدبرا، والتقاط جواهره، ومكنوناته، وومضاته، ونبضاته، وما يؤسس لأفق كوني تشترك فيه الإنسانية جمعاء. لقد تم استبطان هذه الكتابات المضيئة المغذية، وتم استيعاب وهضم منطلقاتها، وأسسها، وآفاقها وأبعادها، من لدن جيل، بل أجيال، شق عليه أن يكون جيل الخيبات المتتالية، والهزائم المتواصلة، فحاول جاهدا أن يقلب الطاولة في وجه الرجعية والأوليغارشية، والعشائرية الحاكمة والمتحكمة في رقاب البلاد والعباد، حيث فشل جل الوقت لعوامل ذاتية وموضوعية، ونجح فترات قليلة كانت معمدة بالدم، والقتل والقمع، والتهجير والنفي. تلك الأفكار النيرات المستنيرات التي كانت تَتْرَى إبان الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وتتصادى شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، يرفدها حس نضالي يساري اشتراكي حاد، وحركات تحرر ديمقراطية اتسعت وتوسعت هنا وهناك، افريقيا وأسيويا، وعربيا: (اليمن – عمان – سوريا- العراق – مصر – تونس – المغرب...)، كانت وراء ما شهدته الأفكار والرؤى والإبداع من تثوير، وتجذير، وتجديد، وتحديث، ووراء مضاء وانشحاذ اللغة السياسية والفكرية والفلسفية. ثم إن الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، والفضائيات المختلفة المتغانية، وباقي وسائط الاتصال التكنولوجي والمعلوميات، لعب دورا ضاربا في نشر الوعي بأهمية العلم والثقافة والحرية، والعدالة، والديمقراطية. فترسانة المفاهيم، والمصطلحات السياسية والاقتصادية والثقافية، والفلسفية التي أصبحت طوع اليد والسمع والبصر، ملأت الدنيا، وأضحت مطرقة يومية تَطِنُّ، ويتردد صداها في الرأس والوجدان، كما في المشهد السيميوطيقي العام. وقبل هذا وذاك، لا ننسى ويلات معيش المواطنين، الكثرة الكاثرة من المواطنين، وبؤسهم، وحرمانهم، وحاجاتهم الملحة إلى الحياة الكريمة، ما يعني: إلى الخدمات الاجتماعية الضرورية المتوجبة على الأنظمة والحكومات، من تعليم، وتطبيب، ورعاية صحية، وسكن لائق، وشغل شريف. هي ذي مَهَادات الهَبَّات الجماهيرية مشتبكة، والتي أُطْلِقَ عليها "ثورات" شعبية، وهي المهادات التي لم تَتَقَوَّ كفاية، وتصل عميقا إلى القاع الجماهيري لتصنع الثورة المبتغاة. أما أحد أسباب ضعف الوعي الجماهيري بالإبدال على أنقاض نظام مستبد ترنح عند أول هبة، فيكمن في تاريخية مناورات الحاكم العربي، والطبقة الاقتصادية الريعية التي تسنده، ويرعاها، ما يفيد أن التعليم كان مُوَجّهًا، والتجديد فيه، تحييد للفكر العقلاني، وإحلال الظلامية مكانه، وإعادة إنتاج إيديولوجية النظام، أي ما يبقي على هيمنته، وتأبيد وجوده وحكمه، (والأمثلة في هذا الباب كثيرة، لعل الإشارة إلى إحدى خطب الملك الراحل بخصوص التعليم ورجاله ونسائه، أن تكون كافية...)، وما يفيد من جهة ثانية، استقواء النظام بالفكر الماضوي الموغل في الظلامية، والرجعية، والانحطاطية، حيث أطلقت الأنظمة العربية الشمولية، يد "فقهاء" كهوفيين، لينشروا في الناس – تساعدهم على ذلك الأمية المتفشية – الخرافات والشعوذة، والدروشة، والرقائع، والإظلام الذي عرفته عصور الإنكفاء الإسلامي، كمثل كرامات الأولياء، وزيارة الأضرحة والقبور، وإحياء المواسم الدينية "الطوطمية"، وقصر التعليم –على عتاقته- على الذكور وحسب، ومعاداة، بل مقاومة ما يأتي من الغرب بدعوى الكفر والفسوق، والتبشير، والإلهاء عن الدين الحنيف. وتفسير المجاعات والأوبئة، والجوائح الطبيعية بالماورائيات، والغيب، أي أن الإسلام الحنيف اخْتُزِلَ في: الويل والثبور، وعظائم الأمور، والاستعداد للموت والقبور، وانتظار يوم القيامة والنشور. نَعَمْ، فما يجري –الآن- في مصر / المنارة تحديدا، وفي تونس المنمازة بمفكريها ومفكراتها المبدعين الحداثيين، من استحواذ إسلاموي على السلطة، والهيجان السلفي (حالة تونس)، يجد بعض تفسيره في ما قلت. من هنا –أسوق هذا استطرادا- تخوف أدونيس، وسعدي يوسف، وآخرين من "الثورات" العربية ليس من حيث هي، بل من عقابيلها: مما وقع، وما سيقع. وهو تخوف يقوم على مبرر "السرقة" كما حدث للثورة في مصر، وفي ليبيا، وفي تونس إلى حد ما، سرقة الحلم الشبابي، والحراك الجماهيري العفوي والتلقائي، من قبل "طائر الوقواق"، أي من الإسلاميين، كما أسميتهم في مقال لي سابق، والذهاب بالغد نحو أفق مفتوح على المجهول، لعل من سماته وعلائمه: التغول المنفلت باسم الإسلام، وتهديد قليلِ الحداثة، وقليلِ الديمقراطية، بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الحياة اليومية لعموم المواطنين. وهو تطبيق –إن رأى النور- سيجهز على البقية الباقية من أمل في هذه البقعة المسكينة من العالم، ووسط هذا الشعب المغلوب على أمره من الماء إلى الماء. خوف أدونيس من مرحلة ما بعد بشار الأسد، من أن يختطفها الإسلاميون، وهم حضور –الآن- في سوريا، ضمن المقاومين والثوار، وضمن المجلسين الوطنيين في الداخل والخارج، له ما يبرره.غير أن الأمر لا يجب أن يصل إلى الفوبيا ما يمنح "مشروعية التقتيل والتدبيح البشاريين. وخوف سعدي يوسف كان مبرره- أيضا- ما ستؤول إليه هبة مصر. وقد استبق هول ما يحدث في نصه الذي عيب عليه، وَجَرَّ عليه انتقادات حادة بل مُخَوَّنَةً، وهو الثوري الذي عارك الديكتاتور السابق والاستبداد – واستمر يعري حال العراق الذي بَهْدَلَهُ باعته: دمى وبيادق إيران وأمريكا. يقول سعدي في نصه ذاك المعنون ب (أي ربيع عربي؟) : الفيسبوك يقود الثورة في بلدان لا يملك الناس فيها أن يشتروا خبزهم اليومي هذا المدقع حتى التلاشي، الأمي، التقي.. هذا الذي لا يستطيع أن يذوق وجبة ساخنة في اليوم.. هذا الذي يعيش على الأعشاب والشاي وخبز الحكومة المغشوش، هل يعرف الأنترنت؟ ومن هؤلاء القادة الفتيان؟ عيب والله ...إلخ هل ما قلنا مدعاة إلى الإحباط واليأس، وطي الكتاب، والقول باستحالة الثورة العربية؟ في الأفق، وَإنْ بعد حين – ما يشي باقتراب الساعة، أي باقتراب ساعة الحقيقة التي ليست غير ساعة الثورة، والإنخراط في أفق الكون، والإنتساب – حقا وحقيقة – إلى العصر. إشارات : يقول أبو بكر الرازي في كتابه : (الطب الروحاني) عن قيمة العقل : "إن الباري عز اسمه، إنما أعطانا العقل، وحبانا به لننال ونبلغ به المنافع العاجلة والآجلة، .. وإذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته، فحقيق علينا أن لا نحطه عن رتبته، ولا ننزله عن درجته، ولا نجعله، وهو الحكم، محكوما عليه. ولا، وهو الزمام، مزمزما. ولا، وهو المتبوع، تابعا. بل نرجع إليه، ونعتبرها به، ونعتمد فيها عليه، فنمضيها على إمضائه، ونوقفها على إيقافه... إنه الشيء الذي لولاه، كانت حالتنا حالة البهائم، والأطفال، والمجانين". فهل نعتبر بهذه الروح الوثابة، والنبض الإنساني العظيم في هذه المقولة التي قيلت في القرن الثاني عشر الميلادي الوسيط؟ أليس الرازي وأضرابه، نموذج المثقف العلماني والعقلاني والنقدي؟