لحظات صفو وطهر.. يستشعرها قلب معلق بربه، يرنو إلى السمو، ويترقى في درجات الإيمان.. لحظات تغمر العقل والوجدان، وتحيل النفس مرتعا خصبا لمعاني الخير والجمال، في خلوة تتجمع فيها العواطف والمشاعر، وتتناغم فيها الأفكار والخيالات لتصيغ إيمانا مفعما بالحيوية والجلال، ينشد فكرا متقدا يجعل الحياة كريمة تتسامى عن سقط المتاع ورذاذ القول والفعل. تلك طريق سطرها الأولون قبلنا، صنعوا بها أجيالا تتربع في صدارة البشرية بلا منازع، بقيت لنا نماذجهم مثلا عليا، وقمما شامخة في ميادين من الحياة فسيحة، نتملاها باندهاش، وننظر إليها ببلاهة، ونتأمل بحسرة بعد الشقة بيننا وبينهم، نرنو إلى الاقتراب منهم، واقتفاء آثارهم، والاقتداء بنهجهم وطريقهم، إذ لم تشرف أمة بمثل هذا الانتماء، وبذلك السمو، وتلك المعالي، ابتداء من الجيل الفريد، جيل الصحابة، ثم أجيال التابعين، ومن بعدهم من علماء الأمة وقادتها وصلحائها، الذين ملأوا الدنيا وشغلوا ناسها، وستبقى هذه الأجيال المضيئة علامات على الطريق، مشرقة في سماء أمتنا، نتطلع إليها كلما أظلمت دنيانا، واندس الظلام بين جنباتها، يسعى إليها الشباب خاصة، والشباب المسكون بقضايا أمته ووطنه على الوجه الأخص، ليزيد إلى قوة شبابه قوة الإيمان وقوة العلم، لأن غالبية الصحابة كانت من خيرة الفتية والشباب، لذلك كان لصنيعهم أبلغ الأثر، حيث تحول الدين على أيديهم قوة في الإيمان، ورسوخا في العلم، وإتقانا في الحضارة، استرخصوا حياتهم وأعمارهم، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل غايتهم، من أجل أن يكون لحياتهم معنى وغاية، ذهبت أجسادهم ورحلت عنا شخوصهم، وبقيت مآثرهم تمدهم بالحياة الأبدية، وتمد المقتدين بهم بزاد الطريق. ومن رحم هاتيك الأجيال الطيبة، خرجت عينة مميزة من الشباب، متفردة في إيمانها، متفردة في تطلعاتها، انصبغت بصبغة الإيمان، ذلك الإيمان الذي ملأ عليها الحياة والجهد والزمن، انغمس في القلب، وعانق الوجدان، فامتزجت به الأفكار والرؤى، وانطبعت معه مفردات الفكر والسلوك، ليروي الأرض بعد ذلك عبقا وسحرا، وعزما وفكرا، استمد قوته من خلود الرسالة، وخلود هاتيك الجبال، يوم صاغ الإسلام من أعراب الجزيرة الرجال، ولا موقع للمقاسات والمثال، حين تقاس هذه العينة المختارة في زماننا، زمن التهتك والانحلال، تظهر الأودية المقفرة بين تلك الجبال، جيل سابق الأجيال، وخاض معارك الحياة في تعال، لا يني ولا يحجم عن كريم الفعال، صبر عند الشدائد والملمات، لا يصبو إلى منال، دائب الفكر لا يفتر عن بلوغ الكمال، قد قارع المنايا وكنس عن سيره ما استحال، تلك هي طلائع الجيل الواعد، جيل الشباب المؤمن في كل حال. قد فطم نفسه عن الدنايا، وارتقى إلى العلياء، اتصف بخير السجايا، واقتحم ظلمة الأنواء، عاف السفائف والخزعبلات، وجانب القبائح والمنكرات، يأبى الزحف مع الزواحف، والجري مع الهوام، يهفو إلى الشوامخ، ويقرأ على اللغو السلام. تعب الحياة له راحة، ودعوة الله سفر وسياحة، يفديها ويبذل لها آلامه وجراحه، مآثره يزكيها المحراب، يباركها الصالحون، ويشهد لها أولو الألباب، حفظا لآي الكتاب، أو حضورا لمجالس الرحاب.. تلك لحظات، ولعلها البداية، تبغي من الطهر النهاية، بعيدا عن دروب الغواية، فمن احترقت بدايته، أشرقت نهايته..