غادرنا إلى دار البقاء الدكتور عبد اللطيف حسني الأستاذ الجامعي والمناضل الحقوقي والسياسي والمثقف الأكاديمي، ففي جو ممطر، شيع عدد من أصدقاء الفقيد ورفاقه جثمانه الطاهر نهاية الأسبوع الماضي بالرباط.. كانت لحظة حزينة ودعنا فيها شخصية فريدة من عالم الثقافة والفكر والنضال، هو من الأساتذة الجامعيين القلائل الذين جمعوا بين البحث الأكاديمي والإشعاع الثقافي والنضال الحقوقي والسياسي.. جمعتني بالمرحوم عبد اللطيف حسني العديد من الذكريات، بعضها يستحق أن يروى عرفانا بالجميل ووفاء لذكريات مليئة بالدروس الأخلاقية. تعرفت على المرحوم عبد اللطيف حسني منذ منتصف التسعينيات بواسطة أستاذنا الراحل عبد الله إبراهيم رئيس رابع حكومة في المغرب بعد الاستقلال، وهو آخر رئيس حكومة قبل أن ننتقل إلى الوزراء الأولون، عينه الملك محمد الخامس يوم 4 ديسمبر 1958 وقام بحل حكومته يوم 21 مايو 1960. ومنذ ذلك التاريخ قاطع عبد الله إبراهيم الانتخابات ولم يشارك في أي من الحكومات المتعاقبة. عندما اخترت – إلى جانب مجموعة من أصدقاء الدراسة – أن أتابع دراستي في السنة الثانية من السلك العالي بوحدة العلاقات الدولية والقانون الدولي، كان اختيارا مقصودا رغم أن سنتنا الأولى في الدراسات العليا قضيناها في وحدة العلوم السياسية والقانون الدستوري بجامعة محمد الخامس بالرباط، وذلك بغرض واحد، هو أن ندرس عند الأستاذ الكبير مولاي عبد الله إبراهيم... كانت دروس المرحوم عبد الله إبراهيم فرصة لنا لإشباع حاجتنا إلى فهم الكثير من المحطات السياسية الهامة في تاريخ المغرب المعاصر، وكنا نستغل الفرصة لإمطاره بالكثير من الأسئلة حول الإصلاح السياسي بالمغرب، خصوصا وأننا كنّا نعيش في تلك الفترة ما سمي بالتناوب التوافقي والبدايات الأولى لتشكيل حكومة عبد الرحمن اليوسفي.. كان المرحوم عبد الله إبراهيم صارما في عدم الخلط بين مهمته كأستاذ جامعي وبين مهمته كرئيس لحزب سياسي معارض (الاتحاد الوطني للقوات الشعبي).. في هذا السياق دعانا للتعرف على المرحوم عبد اللطيف حسني الذي نظم لنا لقاء مع المرحوم عبد الله إبراهيم في مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بشارع علال ابن عبد الله بالرباط، ثم تكررت اللقاءات والزيارات إلى منزل المرحوم عبد الله إبراهيم بالدار البيضاء إلى أن وافته المنية رحمة الله عليه.. كانت علاقتي بالمرحوم عبد اللطيف حسني في البداية علاقة الأستاذ بتلميذه، قبل أن تتطور إلى علاقة صداقة وزمالة قوية استمرت إلى أن عالجه المرض الخبيث قبل سنة ونصف، فاقتصرت علاقتنا على الاتصالات الهاتفية باستثناء لقاء واحد وهو يقام المرض بشجاعة المؤمن بقضاء الله وقدره. لن أنسى دعمه المتواصل – رحمه الله – لي وأنا أعد بحث الدكتوراه، فقد ساعدني في اختيار موضوع البحث، وكم كانت مفاجأتي سعيدة وهو يدعوني إلى جلسة علمية في بيته، ليزودني بمجموعة كبيرة من الكتب ذات العلاقة بموضوع البحث تجاوزت الثلاثين كتابا فيما أذكر..واستمر توجيهه العلمي والمنهجي إلى أن قام بمراجعة وتدقيق البحث والمشاركة في مناقشته إلى جانب لجنة علمية محترمة. سأذكر دائما أن المرحوم عبد اللطيف حسني هو الذي فتح لي باب التدريس بالجامعة كأستاذ مشارك لمادة تاريخ الفكر السياسي بكلية الحقوق بالمحمدية سنوات 1997 إلى 2000، واضعا ثقته الكاملة في لأتولى تقديم المحاضرات لطلبة السنة الثالثة والرابعة من سلك الإجازة آنذاك.. عندما قرر تأسيس مجلة «وجهة نظر»، التي لعبت دورا مهما في تأطير طلبة العلوم السياسية في المغرب، فاتحني في الموضوع، إلى جانب مجموعة من الأصدقاء الباحثين، وأشركنا في هيئة تحريرها منذ العدد الأول الذي كتبت فيه تقريرا عن ندوة علمية حول سؤال الإصلاح في المغرب نظمتها الجمعية المغربية للعلوم السياسية بالمحمدية، وافتتحها المرحوم عبد الكبير الخطيبي بمحاضرة قيمة حول مفهوم الإصلاح. كان المرحوم حسني تجسيدا حيّا للمثقف المغربي الذي آمن بقيم اليسار الحقيقي، المتشبع بضرورة الانخراط العضوي في أسئلة عصره، والحريص على مبدئية مواقفه..كان دائم الحضور في اللجان التضامنية والوقفات الاحتجاجية والندوات الفكرية والثقافية الإشعاعية، كما واكب الدينامية الاحتجاجية ل20 فبراير بالكثير من الأمل والتفاؤل بمغرب تسود فيه قيم الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية. كثيرا ما كان يرفع سماعة الهاتف ليشير إليّ بقراءة مقال كتب في مجلة ما، أو ليعبر عن موقفه التضامني ضد بعض الحملات التشهيرية الرخيصة التي كانت تستهدفني شخصيا أو تستهدف أحد الأصدقاء المشتركين، وليتبعها بدعوته بضرورة الثبات والصمود، مؤكدا على أن ذلك من ضريبة النضال الديمقراطي في المغرب، خصوصا وهو قد خبر السجون والمعتقلات السرية في المغرب في سنوات ما سمي بالجمر والرصاص، في منتصف السبعينيات. قبل أن يعالجه المرض الخبيث، أصبح مدمنا على الرياضة والكتابة والقراءة، وخاصة قراءة القرآن الكريم، وكم كانت مفاجأتي سعيدة حينما كنت أتصل به لأسأله عن أحواله مع المرض وتداعيات العلاج الكيميائي، فكان يجيبني بلغة المؤمن الواثق بقضاء الله وقدره، أدرك أن الموت آت لا محالة، وأنا أستعد له بما أستطيع، حتى ألقى الله وهو راضٍ عني... لا زالت ذاكرتي تحتفظ بكلماته وراء السماعة، وهي مفعمة بالإيمان العميق واكتشاف لذة العشق الإلهي، كانت جمله تعبر عن تبحره في معاني القرآن الكريم، وغوصه في كتب التراث والتصوف وإدراك حقيقة الوجود ومصير الخلق وسؤال البعث.. كانت قراءاته الأخيرة هي مؤنسته المفضلة في رحلة مرضه التي دامت حوالي سنة ونصف، عاشها بكل شجاعة وإيمان، ولم يفقد خلالها الأمل ساعة واحدة.. رحمة الله عليك أيها الأستاذ، والمثقف، والمناضل، والكاتب وأسكنك فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون. نقلا عن القدس العربي