يتساءل الكثيرون عن مستقبل الخيار الديمقراطي في المغرب بعد تعثر تشكيل أغلبية حكومية، وينتاب بعضهم شعور بالقلق من إمكانية التراجع عما حققته بلادنا من مكتسبات في مجال البناء الديمقراطي واحترام الإرادة الحرة للناخبين. فمن المؤكد أن تأخر تشكيل أغلبية حكومية يؤثر على سير عدد من المرافق العمومية المختلفة، كما أنه له انعكاسات على تشكل عدد من المؤسسات الدستورية، لأنها ترتبط في تعيين بعض أعضائها بسلطة رئيس الحكومة أو ببعض القطاعات الحكومية، وهو ما لا يمكن أن تقوم به حكومة تصريف الأعمال، وهذا التعثر ينسحب على العديد من المؤسسات سواء منها المؤسسات التي أحدثها الدستور لأول مرة، كهيئة المناصفة ومكافحة التمييز؛ المجلس الاستشاري للمرأة والطفولة؛ المجلس الاستشاري للشباب والمجتمع المدني؛ والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، أو المؤسسات التي كانت موجودة قبل دستور 2011، وارتقت إلى مؤسسات دستورية، وتحتاج إلى تقديم مشاريع قوانين جديدة، وهو ما لا يمكن أن تقوم به حكومة تصريف الأعمال مثل حالة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي انتهت مدة انتداب أعضائه في سبتمبر 2015؛ وهناك حالات مؤسسات دستورية أخرى التي تعيش إشكاليات أخرى مرتبطة بتأخر تعيين أعضائها، مثل حالة مجلس المنافسة الذي يحتاج إلى تعيين أعضائه الجدد منذ المصادقة على قانونها الجديد قبل سنتين، أو حالة الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة ومحاربتها التي تحتاج إلى تعيين رئيس إداري جديد؛ أو مؤسسة الوسيط، التي انتهت المدة الانتدابية لأعضائها ورئيسها قبل أزيد من عام؛ أو مؤسسة الاتصال السمعي البصري (الهاكا) التي صدر القانون المنظم لها، لكنها لاتزال تعيش طبقا للأحكام الانتقالية؛ ونفس الأمر يقال عن المجلس الأعلى للجالية. وهناك مؤسسات غيرمرتبطة بالزمن الحكومي: كالمحكمة الدستورية؛ الذي تم انتخاب نصف أعضائه من طرف البرلمان بغرفتيه، في انتظار تعيين النصف الآخر بمن فيهم الرئيس، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي تمت المصادقة على قانونه التنظيمي قبل سنة وتم تم انتخاب ممثلي القضاة في انتظار استكمال تعيين باقي أعضائه. إذن، من المشروع جدا أن يطرح مستقبل الخيار الديمقراطي في الميزان، وأن تثار بصدده الكثير من الأسئلة. لكن بغض النظر عن مدى مشروعية هذه الأسئلة وملحاحيتها، فإن الانتظارية الحالية لا ينبغي أن تصل إلى درجة التشكيك في ثوابت الممارسة السياسية المحكومة بتوجهات دستورية واضحة. علينا أن نتذكر في هذا السياق، أن مقتضيات دستور 2011 جاءت محكومة بسبعة مرتكزات حددها الخطاب الملكي التاريخي ليوم 9 مارس، وقد تضمن المرتكز الرابع، الفلسفة الجديدة التي تؤطر عملية تشكيل الحكومات المغربية لما بعد الدستور الجديد :»حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب؛ تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها؛ تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي؛.»... إن الذين يؤاخذون على حزب العدالة والتنمية تشبته باحترام الإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، لا يتحملون فقط مسؤولية عرقلة تشكيل الحكومة، ولكنهم يدفعون عامة الناس إلى التشكيك في الخيار الديمقراطي ومساءلة الإرادة العميقة للدولة ومدى جديتها في احترام التزاماتها، ومدى مصداقية خطابها حول الإصلاحات المؤسسية العميقة. حاجتنا إلى التذكير بخطاب 9 مارس 2011 الذي أعطى لرئيس الحكومة المعين من الحزب الأول الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، مكانة جديدة ومختلفة عما كانت عليه قبل دستور 2011، وهو ما ينبغي للأحزاب السياسية أن تقتنع به وأن تعبر عن النضج اللازم لاستيعاب دلالاتها المؤسساتية العميقة، وأن تعترف عمليا بنتائج الانتخابات المعبر العقلاني الوحيد عن الإرادة الشعبية. من المؤكد اليوم أن الانتظارية التي نعيشها اليوم ليست انتظارية قاتلة كما يرى البعض، ولكنها لحظة مفصلية في التاريخ المغربي المعاصر تعكس الصراع بين إرادتين: إرادة الدفاع عن مغرب المؤسسات واحترام الإرادة الشعبية والانتصار للإصلاحات الدستورية التي أرسى دعائمها جلالة الملك، وبين إرادة معاكسة تخاف من ترسيخ المسار الديموقراطي وتخاف من الإرادة الشعبية المعبر عنها بشكل عقلاني وتدفع الشعب إلى التشكيك في الخيار الديموقراطي، والدفع به إلى خيارات أخرى.. إن الذين يراهنون على دفع الناس إلى الإحباط والتشكيك في النموذج الديمقراطي، يعززون منطقهم بما تعرفه المنطقة من توترات سياسية وأمنية وتراجعات ديمقراطية ويحاولون أن يقحموا التجربة المغربية بشكل تعسفي في هذا السياق، ويتناسون أن السياق المغربي مختلف، ومن علامات اختلافه أن الملك باعتباره رئيسا للدولة هو «الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي».