45 دقيقة قررت أنا وبعض زملائي الصحافيين استغلال تواجدنا بالقاهرة رفقة الوداد البيضاوي، لزيارة بعض المواقع التاريخية في المدينة المقهورة من طرف لوبيات الفساد.. زرنا ميدان التحرير الذي كان يشهد فورة غضب من طرف شباب الثورة، الذي نسي مباراة الأهلي ضد الوداد وتعيين حسن شحاتة مدربا للزمالك، وإنجازات المنتخب العسكري المصري في نهائيات كأس العالم، وفضل الإعتصام بالميدان إلى أن يذهب الطنطاوي، ليس طنطاوي الرجاء، ويحاكم حسني، ليس طاسيلي الوداد، ويتم القصاص من مبدعي معركة الجمل، وتخرج تشكيلة المجلس الوزاري من خيام المعتصمين. زرنا المدينة العتيقة واستنشقنا عبق التاريخ مع رائحة العطارين، في الدروب المتاخمة لمسجد سيدنا الحسين، وجامعة الأزهر، واستمتعنا بجلسات في حارة الحلواني، وعشنا التاريخ والجغرافية وعلم السياسة والاجتماع مجتمعة ونحن نطوي المسافات بلا كلل تحت سياط شمس ملتهبة. ونحن نحاول الإنفلات من زحمة الأسواق الشعبية ومن صراخ الباعة المتجولين، استوقفنا رجل في منتصف عقده الرابع، ودار بيننا الحوار التالي: الإخوة من المغرب؟ نعم أنتم في رحلة سياحية ولا إيه؟ لا رحلة عمل نحن صحافيون مغاربة انتدبتنا منابرنا لتغطية مباراة الأهلي والوداد. آه، جيد أتمنى الفوز للوداد لأني زملكاوي. شكرا لدي ملتمس، عبارة عن أمانة لصديقي اللاعب السابق للوداد بوجمعة قصايب، تعرفونه أكيد؟ تقصد بوجمعة قصاب، إنه يشغل الآن مهمة مؤطر بالفئات الصغرى للوداد، ما هو ملتمسك؟ بلغوه سلام حار من صديقه المصري محمد عبد الوهاب محمد عبد الوهاب ما زال حيا؟ هذا هو إسمي، لكن على فكرة لو سمحتم تتفضلوا معايا لأسلمكم هدية لبوجمعة ولكم أنتم كمان. تبادلنا النظرات فيما بيننا وحصل إجماع صامت على مرافقة محمد عبد الوهاب إلى حيث يريد، كان الرجل يسير بخطوات سريعة في أزقة آيلة للسقوط، تسع بالكاد أجسادنا وخطواتنا، وكلما سألني زميلي مكاو إلى أين نسير أستحضر رائعة محمد عبد الوهاب «أيظن»، لأطرد التوجس والقلق. توقف الرجل أمام دكان متواضع يبدو أنه لم يفتح في وجه الزبناء منذ الإطاحة بحسني مبارك، رحب بنا داخل المتجر الصغير وتبين لنا أنه بائع عطور، أعاد على مسامعنا تاريخ علاقته مع لاعب الوداد قصاب وأيضا بنشريفة، وبكثير من لاعبي الرجاء كمستودع والسلامي وبصير، وقال إنهم لا يترددون في استنشاق عطره لكلما حلوا بمصر، قبل أن يسرد لائحة بأسماء الشخصيات السياسية التي لا تتردد في اقتناء أنواع العطور التي يوفرها. القاسم المشترك بين زبناء صاحبنا، هو التمسك بالدين إلى حد التطرف، لذا كان بين الفينة والأخرى يمقت تصرفات بعض اللاعبين الآخرين الذين وصفهم بالمتهورين. وضع أمامنا عينات من أنواع العطور، قبل أن يسأل كلا منا عن النوع المفضل لديه، ليقول إنه يملك أفضل مما تعرضه محلات العطور في باريس ودبي، ودعانا لاستنفار حاسة الشم لنستمتع بأفضل ماركات العطر. كان صاحبنا يسهب في الحديث عن كل نوع ويتحدث عن العطور التي يستعملها المشاهير، قبل أن يقدم لنا نوعا من العطر وصفه بالعطر المغناطيسي الجذاب، الذي يجعل رائحة صاحبة مثار جاذبية من الجنس الآخر خلال 45 دقيقة، قال إنه من النوع النادر ويسمى بعطر متولي. قلت له لا نريد عطر متولي، فالولد سمعته «زفت» هذه الأيام في المغرب، ورجوته أن يبحث عن نوع آخر يدعى لمباركي أو مسلوب حتى، لننخرط جميعا في نوبة ضحك. شرع الرجل دون استئذان في ملء قنينتين من الحجم الصغير، وهو يقول إن أغلى أنواع العطر في قنينات صغيرة، إعتذر زميلنا سفيان عن البضاعة، وقال إنه لا يريد تغيير عاداته العطرية، بينما كان إصرار الرجل غريبا على نيل الهدية، وما أن تسلمت أنا ومكاو القنينتين حتى وشرعنا في تصفيف كلمات الشكر ونحن نهم بالإنصراف، لكنه طلب منا سعرا للهدية، بل إنه لم يتراجع عن السعر الذي قدمه فقررنا الأداء أولا والتشكي في ما بعد على النمط المغربي في أداء الضرائب. غادرنا المحل دون كلمة وداع، وحين بحثنا عن محمد عبد الوهاب ليسلمنا هدية بوجمعة قصاب تبين أن الأرض إبتلعته، فبحثنا عن مخرج من الزقاق الرطب ولسان حالنا يردد أغنية الموسيقار محمد عبد الوهاب «من غير ليه». عدت إلى الفندق، وحين فتحت القنينة تبين لي أن رائحتها لا تختلف كثيرا عن رائحة مياه مجاري صرف المياه، وأن صلاحيتها لا تتعدى 45 دقيقة، حينها استحضرت أغنية «إنس الدنيا وريح بالك»، بعد أن تبين أننا كنا ضحية عملية نصب و»احتياج».