إن المحنة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية اليوم، تطرح علينا أسئلة لا حد لها، تهز الضمائر والمشاعر وبما يتصادم مع القيم تصادما عنيفا، فالقلم ومسؤولية الفكر في كل التاريخ الإنساني هما الجديران بالأمم الحية حقا، إن معظم مشاكل الإنسان وليدة الإنسان نفسه، وما هذا القلق والخوف الذي نشعر به اليوم، وقد تجمع في القرن الواحد والعشرين من المشكلات ما لم يجتمع لقرن على امتداد التاريخ؛ لأنه القرن حصيلة ما قبله من القرون الغابرة الماضية. وقد آن الأوان لقيام نوع من التعاون بين الأسر المسلمة وغيرها من الأسر الإنسانية كتكتل جماعي لتفادي المخاطر، خاصة وأن التعاون أصبح ضرورة ملحة من ضروريات الحياة الإنسانية وإحدى دعائمها الهامة، ومن خلال هذا الطرح على الإنسان أن يسمو إلى إنسانيته التي هي جوهر ضمير حي ذكي واع يريد ولا يريد، يعطي ويأخذ ويضحي ويستأثر، وعليه أن يكون أو لا يكون، وبذلك السمو عليه إن أخطأ يندم ويتوب، ويعود عن خطئه مستغفرا. والسلوك البشري هو الشجاعة أو الجبن، هو الكرم أو البخل، هو الرزانة أو الحمق، ولكن العلم والمعرفة هما مقياس نجاح الأسرة مع الأجيال، والأسرة الرائدة هي التي تنجح بالسلوك أكثر مما تنجح بالمعرفة، على أن كلا من المعرفة والسلوك لا غنى له عن الآخر، والأسرة التي تشبع من المعرفة تزداد معارفها مع امتداد الزمن، فتتضاعف مقدرتها على استيعاب كل جديد. والبشرية في عصرنا اصطدم لديها المبدأ بالسلوك، تقلب أنظارها بين الواقع المعاش على الأرض، والأمل في السماء عسى أن يكتب الله الهداية لها، لكن عندما ننادي بفضائل الأمانة ومزايا الإخلاص، ليحب الإنسان لأخيه الإنسان ما يحب لنفسه؛ والفرصة اليوم بين أيدي الأسرة المسلمة يجب ألا تضيعها، بل يجب أن تعمل على دعم كل مجهود؛ لأن الأجيال الصاعدة اليوم في العالم الإسلامي مليئة بالكفايات والكفاءات، لكنها كفايات وكفاءات غير مستغلة لما يتطلبه العصر، وهي سبيلنا إلى حياة أفضل لهذه الأجيال الحاضرة والقادمة من بعدنا، وإطلاعها على نتاج الفكر الإنساني المعاصر، ونختار لها من تراثنا كل ما له صلة بواقعنا وحاضرنا الثقافي والفكري، والطريق أمامنا طويل، وأن بيننا وبين الهدف الذي نسعى لبلوغه أشواط وأشواط ذلك؛ لأننا مقبلون على عهد جديد بفضل القدرات الشباب العلمية والعملية للمساهمة في بناء هذا الصرح الإسلامي والإنساني الذي يعتبر مفخرة لأمتنا قال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الاَرض يرثها عبادي الصالحون" [الاَنبياء، 104]. وعلى أي الأحوال فالنظر إلى المستقبل، والاختيار الأفضل في إطار محدد يروم التوصل إلى الكشف عن خبايا الرشد الإنساني وهو المفتاح الذي يفتح الأبواب الموصدة للحياة والحضارة، وستبقى الأسر المسلمة استجابة لسياق الشعلة والعبقرية اللامعة تنير الدرب للسائرين خالدة في التاريخ الإنساني؛ لأنها كانت في الحياة خلاقة مبدعة أضافت إلى الحياة شيئا لا يمكن للزمن أن يسلبه، ففي الحياة الجديدة أسر تكرس الزمن الباقي من عمرها لعمل يخفف من عذاب البشرية وآلامها، وتستطيع أن تعالج وقائع الوجود الإنساني، واحترام الحياة بما يعني استمرار الحياة وانتصارا دائما لها قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" [العنكبوت، 69]. وأما القضية التي نبحث عن ملامحها لمتابعة المسيرة الإنسانية هي سمة من السمات الثوابت، التي غدت جزءا من الصفة التي تُميز أمتنا وحضارتنا عن غيرها من الأمم والحضارات، وهو ما يقتضي تطويرا في القدرات والعقليات على التعامل مع المستحدثات المتلاحقة بما يدعم ساحتنا العاجزة بمتطلبات البقاء والاستمرار في التنمية الذاتية اللازمة لمواجهة التحديات، وبما يسهم إسهاما فعالا في إقامة نظام عالمي من التسامح والتعاون، وبما يحقق العدل والمساواة والتوازن في تبادل المنافع الإنسانية، وبما يدعم الاعتماد على النفس ويؤدي بالتالي إلى مزيد من المكاسب للبشرية جمعاء. ومستوى أي أمة له علاقة باتساع الحضارة وهنا يتضح للمتأمل في تاريخ الأمة أنها سلكت نهج الأخذ والعطاء، يوم كانت عقول علمائها ومفكريها تملك قابلية التطور، ذلك أنه كان لديها استعداد لتقبل ما يجد في الحياة الإنسانية من تطور وتغير، وقد بقيت هذه المحاولات في نسق مطرد حتى جاء العصر العباسي، فانفتحت الأبواب على مصاريعها فتدفق العطاء المثمر كما يتدفق النهر العظيم، فتم للأمة من الغنى والقوة ما لا يملكه غيرها، والله وحده يعلم ما تبذله الأسر المسلمة الناضجة لتثمر في فلذات أكبادها الذين هم عدة المستقبل وقلبه النابض بالحب والحياة لكل ما هو إنساني، وهي تشاهد قرص شمس الأمة قد غاب وراء الأفق البعيد من زمان، معلنا نهاية عظمة أمة لفها الظلام لأجيال وطواها الزمان والمكان وفي انتظار بداية يوم جديد، لتشرق شمس الإسلام الرحيمة بالإنسانية المكلومة حانية على العباد مترفقة بهم، وبوجه التحديد عالمة من أين تبدأ، كل شيء أمامنا اليوم ومن حولنا يصور لنا عظمة أجدادنا الذين عاشوا قريبين من الله رحماء بعباده. إنني وأنا استعرض التاريخ، وما يحكيه لنا من بعيد أو قريب، وقد توقفت عقارب ساعة الأمة الشامخة، وها أنا أمشي مع السائرين لاستنطاق هذا التاريخ، وأقف مع الواقفين وأرجو ألا تطول وقفتنا فقد أدركنا على الفور أن أية محاولة قد نقوم بها قد تكون أشبه بمن جلس على شاطئ البحر محاولا أن يجمع مياه في فنجان، ولقد اقتنعت الآن بأن هذه الرحلة ستكون إن شاء الله أقرب إلى تلك الأيام التي خطاها أجدادنا وهم يحملون رسالة الإسلام على أرض الله من المشرق إلى المغرب أجيالا بعد أجيال من بعد أجيال، مليئة بالخير والعمل الطيب، والتسامح والتعايش الإنساني الذي رسخوا قواعده، وإنه للموضوعية والأمانة فلابد للأسرة المسلمة أن تلين من عريكتها، لتكون على الدوام قادرة على مواجهة النصر والهزيمة لتستروح الأجيال نسيم شذى تحفيزها كما تستروح الأرض الجدبة ببل المطر، لتحب الحياة وتتشبث بها، وتشعر بالأمل والمباهج وهي تخوض عباب محيطات الشقاء بقلب كبير نبضاته تخفق بالحب لكل الناس، ولكل عمل طيب يمت بصلة إلى الله عز وجل. وكل أسرة تحمل رسالة بأحرف من نور تنبع من ثناياها القيم والمبادئ التي جاء بها الدين الحنيف كشجرة خضراء غرست في أرض غبراء، أغصانها سلاسل من ذهب ولآلئ تسبح بحمد الله بلا زيف ولا رياء، تحكي قصة رجال نشروا الإسلام في كل بقعة من أرض الله، والأمة اليوم ما زال فيها أسر ورجالات علم وفكر، ما زال نفر يقدرون الفكر حق قدره، وفيهم من يستطيعون خلق روافد أو إثراء روافد لإنقاذ تراثنا المبعثر في أرجاء الأرض، يحمل نورا لنا أضاء للبشرية طريقها وسط الظلمات، وآن الأوان أن تنطلق أفواج من شبابنا تنهل من مورد العلم وتستكمل مكونات إنسانيتها، في هذا التراث الذي أعلى صروحا اعتز بها أجدادنا، والأمل كبير في أجيال من الشباب العالم المستنير الواعي، ودليله طموح وإصرار..