قال تعالى: "قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون" [الاَنعام، 64-65]. سيقت الآيتان في مقام إبراز تناقضات المشركين. فهم لئن كانوا موحدين في أحوال الأهوال والكروب؛ فإنهم سرعان ما ينقلبوا إلى مشركين بعد النجاة من الأهوال ونوائب الدهر. فعندما تصيبهم المصائب العظيمة والأهوال والكروب يلجأون إلى الله تعالى، ويجأرون إليه بالدعاء تضرعا وخفية، ولعل هذا هو المقصود من الاستفهام في قوله: "قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية". إذا نظرنا إلى ظلمات البر والبحر من زاوية معناهما الحقيقي تعين تقدير مضاف، أي أضرار ظلمات البر والبحر، فمن ظلمات البر ظلمة الليل التي يتلبس فيها الطريق للسائر، والتي يخشى فيها العدو للسائر والقاطن[1]. ومن ظلمات البحر ما يخشاه مرتاد البحر من الغرق والضلال والاعتداء. أما إذا نظرنا إلى ظلمات البر والبحر من زاوية معناهما المجازي يكون المقصود بهما المخاوف الحاصلة من البر والبحر. ومن أمثال العرب يوم مظلم، أي يوم حصلت فيه شدائد كثيرة حتى صار اليوم كأنه يوم مظلم[2]. وأيا كان المقصود فإنهم في هذه السياقات يدعون الله تعالى تضرعا وخفية. أي تذللا، معلنين ذلك ومسرين. وهو لعمري مظهر من مظاهر الإخلاص لله عز وجل، إذ ينقطع عندئذ رجاء الإنسان عن كل ما سوى الله تعالى و يتجه إليه وحده.. قال الرازي رحمه الله: "لفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور: أحدها الدعاء، وثانيها التضرع، وثالثها الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله: "حفية"، ورابعها التزام الاشتغال بالشكر، وهو المراد من قوله: "لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين"[3]. --------------------------------------- 1. قال ابن كثير: "إن الحائرين الواقعين في المهام البرية وفي اللجج البحرية هاجت عليهم الرياح العاصفة، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له". تفسير بن كثير، ج: 2، ص: 140. وينظر أيضا القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج: 8، ص: 8. 2. قال الكشاف: "مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال لليوم الشديد يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، أي اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل". الكشاف ج: 2، ص: 32. 3. الرازي، مفاتيح الغيب، ج: 13، ص: 19.