إذا كانت السلع تستعمل لإشباع حاجات معينة لدى الإنسان أو أداء خدمات؛ فإن هذا الاستعمال قد اختلف من منظور الفقه الإسلامي عن الاقتصاد الوضعي. فالسلعة في المفهوم الشرعي لا تنحصر في بعد مادي يصلح لإشباع حاجات معينة، بل إن البعد الشرعي يعتبر من الأسس التي يقوم عليها مفهوم السلعة في الفقه الإسلامي. 1. مفهوم السلعة في الفقه الإسلامي يقتصر على الطيبات لا يعتبر في الفقه الإسلامي سلعة إلا ما كان حلالا، فلا يجوز للمسلم أن يتجر في المحرمات، أو يستهلكها كالخمر والخنزير، وكل ما ثبت أنه محرم بالشرع "إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم ثمنه"[1]. فمبدأ الحلال والحرام يعتبر فيصل التفرقة بين السلعة في المفهوم الإسلامي، والمفهوم الاقتصادي الوضعي. ويترتب عن تحديد مفهوم السلعة في الفقه الإسلامي وربطها بالإطار الشرعي تحريم كل نشاط اقتصادي سواء تعلق بالاستثمار، أو بالاستهلاك، أو التداول لأن "كل ما لا يجوز أكله أو شربه من المأكولات أو المشروبات، لا يجوز بيعه ولا يحل ثمنه"[2]. 2. أن تكون مواصفات السلعة معلومة وهذا الشرط يقتضي أن تكون جميع المعلومات عن السلعة معلومة للمشتري، حتى يكون اختياره سليما، نابعا من اقتناعه بمزايا السلعة التي يشتريها، وليس ناتجا عن تأثير معين. ولذلك لا يجوز بيع المجهول، ولا بيوع الغرر التي تنتفي فيها معرفة المشتري بأوصاف السلعة. فقد نهى الشرع عن الملامسة[3]، والمنابذة[4]، وبيع الحصاة[5]، وبيع الغرر، والجامع بين هذه البيوع هو عدم المعرفة بأوصاف السلعة مما يتسبب في الغبن والضرر. فالمعرفة بمواصفات السلعة يعتبر أسلوبا تنظيميا غايته هو ضمان حق المستهلك في حرية الاختيار دون التغرير به أو خداعه. ومن هذا المنطلق لا تقر الشريعة الإسلامية أساليب الدعاية الكاذبة التي تمارسها وسائل الإعلام المعاصرة، والتي تستعمل كل الوسائل المضللة من أجل ترويج سلعها بالكذب، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التصرية، "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر"[6]. والتصرية في مضمونها تغرير بالمستهلك إذ تعتمد أسلوب التضليل، وإظهار السلعة على غير حقيقتها، ذلك أن صاحب الإبل والغنم يترك اللبن يجتمع في الضرع لبعض الأيام، مما يوهم المشتري أن لبنها غزير، فيشتريها ويدفع فيها أكثر من قيمتها[7]، وهذا الأسلوب تتبعه وكالة الإشهار فتصف السلعة بما ليس فيها جريا وراء الربح الوفير. إن معلومية السلعة بأوصافها هي التي جعلت الفقهاء يشترطون في المسلم فيه في بيع السلم بعض الشروط وهي: • أن يكون معلوم الجنس، كأن يبين أنه حنطة أو شعير أو سيارة أو نحوها؛ • أن يكون معلوم النوع، كأن يقول حنطة سهلية أو جبلية؛ • أن يكون معلوم الصفة، كأن يقول حنطة جيدة أو رديئة أو وسط؛ • أن يكون معلوم المقدار بالكيل أو الوزن أو العد أو الذراع[8].. والسبب في اشتراط هذه الشروط هو إزالة الجهالة؛ لأن ضبط مواصفات المسلم فيه يحول دون وجود المنازعات بسبب الجهالة. ومن هذا المنطلق أجاز الإمام مالك البيع على البرنامج، وصورته أن يقدم البائع سلعته أو تصميمها، ويعرف بها عن طريق الوصف، أو يعرفها المشتري مسبقا فيقبلها بالثمن المتفق عليه، وهو لازم عند مالك[9]. قال في موطئه: "الأمر عندنا في القوم يشترون السلعة البز أو الرقيق، فيسمع به الرجل، فيقول لرجل منهم، البز الذي اشتريت من فلان قد بلغتني صفته وأمره، فهل لك أن أربحك في نصيبك كذا وكذا فيقول: نعم، فيربحه ويكون شريكا للقوم مكانه، فإذا نظر إليه رآه قبيحا واستغلاه، قال مالك: ذلك لازم ولا خيار له، فيه إذا كان ابتاعه على برنامج وصفة معلومة، قال مالك في الرجل يقدر له أصناف من البز ويحضره السوام، ويقرأ عليهم برنامجه ويقول في كل عدل كذا وكذا ملحفة بصرية، كذا وكذا ريطة سابرية ذرعها كذا وكذا ويسمى لهم أصنافا من البز بأجناسه، ويقول: اشتروا مني على هذه الصفة، فيشترون الأعدال على ما وصف لهم، ثم يفتحونها فيستغلونها ويندمون، قال مالك: ذلك لازم لهم إذا كان موافقا للبرنامج، الذي باعهم عليه، قال مالك: وهذا الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا يجيزونه بينهم إذا كان المتاع موافقا للبرنامج ولم يكن مخالفا له"[10]. فاشتراط مالك موافقة البرنامج للسلعة حتى يعتبر البيع لازما دليل على أن معلومية السلعة بأوصافها شرط ضروري لانعقاد البيع. وإنما رخص في هذا البيع من البيوع لأن أوصافه منضبطة، ولأن السلعة قد لا تكون في بلد آخر، أو لأن البائع لا يمكنه أن يفتح جميع السلعة، وفي هذا السياق يقول ابن رشد الجد في المقدمات: "فمن الضرورة إلى ذلك أن تكون السلعة المبيعة على الصفة غائبة في بلد أخرى، أو يكون المبيع كثيرا مشدودا في أعداله وأحماله، فيجوز بيعه على صفة البرنامج، لأن فتحه كله ونشره مما يضر بصاحبه ويشق عليه"[11]. وهكذا يتبين ضرورة توفر المستهلك على جميع المعلومات التي تتعلق بالسلعة حتى لا يغبن أو يغرر به. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. ---------------------------------------- 1. رواه أبو داود في السنن، كتاب البيوع، سنن أبي داود، ج: 3 ص: 280. 2. التمهيد لابن عبد البر، ج: 4 ص: 163. 3. الملامسة: أن يبيعه شيئا ولا يشاهده على أنه متى لمسه وقع البيع. 4. المنابذة: هي طرح الرجل ثوبه للبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه. 5. بيع الحصاة كأن يقول البائع للمشتري بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها. والجامع بين هذه البيوع هو الجهالة وعدم معلومية السلعة التي يروم المستهلك الحصول عليها، وهناك نماذج كثيرة مما يندرج تحت هذا الباب، انظر في ذلك: المغني لابن قدامة، ج: 4، ص: 228. 6. رواه أبو داود في كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة فكرهها، سنن أبي داود ج: 3 ص: 270. 7. المغني لابن قدامة، ج: 4 ص: 149. 8. بيع السلم: بيع آجل بعاجل أو بيع شيء موصوف في الذمة، أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المثمن للآجل. 9. المغني لابن قدامة، ج: 4 ص: 149. 10. تنوير الحوالك للسيوطي، ج: 2 ص: 160. 11. المقدمات الممهدات: ابن رشد الجد، ج: 2. ص: 553.