التصوف على "طريقة الجنيد السالك" حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ: المبدأ الثامن في طريق التصوف: التحلي بمقامات اليقين (1): يقول الناظم رحمه الله: يُجَاهِدُ النَّفْسَ لِرَبِّ الْعَالَمِين وَيَتَحَلَّى بِمَقَامَاتِ الْيَقِين أشار الناظم بقوله: "وَيَتَحَلَّى بِمَقَامَاتِ الْيَقِين"، إلى أن السير والسلوك إلى الله تعالى لا يستقيمان إلا إذا امتزجا بمقامات اليقين من خوف ورجاء وخشية وصبر وورع ورضا وتسليم ورحمة وغير ذلك.. ، وهي مقامات أهل البدايات، وأما سلوك أو تصوف أهل النهايات، فإلى جانب الرسوخ في هذه المقامات مع القوة والتمكين، فاليقين عندهم لا يكتمل إلا بالغيبة عن الأكوان بشهود المكون أو الغيبة عن الخلق بشهود الحق؛ وهو مدار قول الله عز وجل في حديث البخاري: "كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"[1]. ومقامات اليقين هي عبادات القلوب وطاعاتها وعلومها، وهي لا تتناسب إلا مع البواطن الطاهرة المستنيرة. فاليقين هو أصل الأصول، وعليه ينبني كل خير، وهو نورٌ يجعله الله في قلب العبد، وهو -كما في لطائف المنن- "عبارة عن استقرار العلم بالله في القلب، ومِن يَقِن الماء في الجبل إذا سكن فيه، فكل يقين إيمان، وليس كل إيمان يقينا، والفرق بينهما أن الإيمان قد تكون معه الغفلة، واليقين لا تجامعه الغفلة"[2]. قال الناظم: "وَيَتَحَلَّى". أي كما يطلب من السالك تحلية جوارحه بما تقدم من الخصال الحميدة، يطلب منه كذلك تحلية باطنه بالخصال الإيمانية، وتسمى مقامات اليقين، وهي أخلاق أهل اليقين، فلابد للسالك في سيره من التخلي باطنيا عن الصفات المذمومة، والتحلي بالصفات المحمودة، والتحلي والتخلي هما حقيقة السلوك.. واستعمل الناظم لفظ "المقام" فقال: "وَيَتَحَلَّى بمقامات"، إشارة إلى أن أخلاق أهل اليقين توصف بالمقام عند القوم إذا ثبتت وأقامت؛ فإن كانت عارضة فقط سميت حالا لسرعة زوالها. قال حجة الإسلام في الإحياء: "كما أن الصفرة تنقسم إلى ثابت كصفرة الذهب، وغير ثابت كصفرة الوجل وصفرة المريض، كذلك القلب، فالذي هو غير ثابت يسمى حالا؛ لأنه يحول على القرب"[3]. والإنسان إذا بلغ مقام اليقين انكشف له ما لم ينكشف لغيره ممن لم يصل إلى تلك المرحلة، ومع هذا، فإن اليقين له مراتب ثلاث: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وقد أشار القرآن إلى حصول اليقين بتقسيمه الثلاثي. ففي سورة التكاثر أشار إلى علم اليقين وعين اليقين، فقال تعالى: "كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" [التكاثر، 5-7]، وفي سورة الواقعة أشار إلى حق اليقين فقال: "اِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ" [الواقعة، 98]، وفي سورة الحاقة قال: "وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ" [الحاقة، 51]. والعلم في المراتب الثلاث صفة لازمة للنفس لا تغفل عنه، ومثالها من تيقن وجود البحر، يقينا غلب على قلبه، ومن رآه وشاهده عن بعد، ومن دخله وانغمس فيه، فلا شك أن من رأى ليس كمن علم، كما أن من دخله وانغمس في لجته ليس كمن رآه عن بعد، وإن اشترك الثلاثة في العلم به. وقد تضمن حديث الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك"[4]، المراتب الثلاث، فقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه" شامل لعين اليقين وحق اليقين، وقوله: "فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك" إشارة إلى علم اليقين. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: "إنما هما كرامتان جامعتان عظيمتان: كرامة الإيمان بما يزيد الإيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة. فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما، فهو عبد مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم والعمل بالصواب، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضا، فجعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع الرضا"[5]. يتبع في العدد المقبل بحول الله ------------------------------------------- 1. صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2004م، 4/217. 2. غيث المواهب العلية، ص: 57، ولطائف المنن، ص: 30. 3. إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، 4/220. 4. تقدم تخريجه. 5. لطائف المنن، ص: 44.