يشكل مفهوم الثواب والعقاب إحدى الثوابت العقدية التي توجه سلوك المجتمع، ذلك أن الثواب والعقاب كعائد أخروي يعبر عن امتداد البعد الزمني في الإسلام، هذا الامتداد الذي يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة، متجاوزا بذلك الرؤية المادية الأحادية التي جعلت مبلغ علمها الحياة الدنيا، ولم تلتفت إلى الحياة الأخرى. إن مفترق الطرق بين الفكر الاقتصادي الإسلامي، والفكر الاقتصادي الغربي يكمن في الإيمان باليوم الآخر، الذي يعتبر كلية من كليات العقيدة الإسلامية، فالإيمان باليوم الآخر يجعل للأفعال والتصرفات أهدافا، ومقاصد، وغايات، ذلك أن الثواب والعقاب يجعل السلوك الاقتصادي للفرد يراعي المقاصد الدينية والدنيوية، ويجمع بين القيم الروحية والمادية، وهذا ما يحقق التوازن النفسي للفرد، ويعطي نموذجا اقتصاديا رشيدا؛ لأن الثواب والعقاب "كدوافع وجدانية يؤثر في سلوكية الفرد في مجال الاستثمار والاستهلاك والإنفاق، فتشجعه في بعض المجالات، وتمنعه في بعض المجالات الأخرى، مما يوجد توازنا بين دوافع السلوك الإنساني يحقق المصلحة الاجتماعية التي قد يضعف دورها في ظل الدوافع المادية"[1]. فالثواب عنصر من عناصر تحقيق التوازن النفسي للفرد، وقاعدة من أهم قواعد ضبط السلوك الاقتصادي لديه. إن مفهوم الثواب والعقاب يجسد اهتمام الشريعة الإسلامية اهتماما قبليا وبعديا بالتصرف الاقتصادي، وهذا يدل على أن النشاط الاقتصادي في الإسلام محكوم بهذا الضابط الذي يعتبر جزءا من منظومة مفاهيمية يتأسس عليها النسق العقدي في الإسلام، وإدخال الثواب كبعد غير اقتصادي في بنية النسق الاقتصادي في الإسلام، يشعر بأهمية المنافع الأخروية "المصالح والمفاسد الأخروية"[2]، في تأطير السلوك الاقتصادي، وإن كانت لا تخضع للقياس الكمي أو الصياغة الرياضية. إن مفهوم الثواب والعقاب يعبر عن القيم المذهبية التي تتشكل منها المنظومة الاقتصادية الإسلامية، كما يعبر عن الأهمية التي يحظى بها هذا المفهوم في سلم الأحكام الشرعية من أجل توجيه سلوك المسلم نحو السلوك الاقتصادي الرشيد. واعتبار الثواب والعقاب كجزء من التصور العقدي في الإسلام ساهم في صياغة وبناء الشخصية الاقتصادية السوية والسليمة، والتي تسعى إلى إشباع حاجاتها دون أن تخرم القواعد الأخلاقية والتشريعية. ويمكن بيان أهم الأسس التي ينبني عليها مفهوم الثواب والعقاب فيما يلي: • اعتبار أن الدنيا مرحلة وسيط للانتفاع، والاستمتاع بثمرات الاستخلاف، وعمارة الأرض وتطبيق منهج الله، فالدنيا في التصور الإسلامي مزرعة الآخرة ومدرجة إليها، وليست المرحلة النهائية. وهذه المعادلة تجعل المسلم يزاوج بين المنافع الدينية والدنيوية، ولا يجمع همته ومبلغ علمه في الحصول على العوائد المادية. وقد صحح القرآن نظرة الإنسان لمفهوم الحياة الحقيقية، ووضع له الموازين ليهتدي بها، فالحياة الحقيقية هي الآخرة، أما الحياة الدنيا فليست إلا قنطرة وسبيلا لتحقيق العبودية، "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاَخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" [العنكبوت، 64]؛ • وجود يوم للمحاسبة، وهذا يجعل الإنسان يشعر بمسؤوليته أمام خالقه، "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره" [الزلزلة، 8-9]، "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" [الاَنبياء، 47]. وشعور الإنسان بهذه المسؤولية يلزمه بضبط سلوكه وتنزيله وفق مقاصد مستخلفه، فالخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط، فإنها كلها عبث وباطل، إذ غايتها الموت والفناء والله يقول: "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لاَ ترجعون" [المومنون، 116]، "إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم"[3]؛ • إن الإيمان بوجود يوم للمحاسبة يشكل أحد العناصر الأساسية لتحقيق الحياة الطيبة والمساهمة في عملية التنمية في المفهوم الإسلامي حيث يسود وفرة الإنتاج وعدالة التوزيع، وتحقيق الاستهلاك الرشيد، والتصور الإسلامي من هذا المنظور يفارق التصور العلماني الغربي، فالزمن في الفكر الإسلامي يجمع بين الدنيا والآخرة، واللذة تجمع بين متطلبات الجسم وقيم الروح، والأخلاق تهيمن على جميع التصرفات والأفعال للفرد، بينما نجد هذه القيم غائبة في التصور الغربي، فالزمن محدود بالدنيا، واللذة محصورة في الجانب المادي، والأخلاق لا وجود لها[4]، وهذا التصور يقوم على أساس "حيوانية الإنسان"، ومن ثم فغاية المجتمعات المعاصرة هي الوصول إلى مجتمع الاستهلاك الوفير، وكأن علاقة الإنسان بالحياة علاقة معدن وبدن[5]؛ • إن الإيمان بالثواب والعقاب له عائد مادي دنيوي يتجسد في الالتزام المطلق والكامل بالمنهج الشرعي، وتظهر آثار هذا الالتزام في تحقيق التنمية الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، هذه التنمية التي تكلؤها العناية الإلهية "ولو اَن أهل القرى ءَامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والاَرض" [الاَعراف، 95]؛ • وإن غياب هذا الركن من حياة البشر معناه ضنك العيش، والتمزق النفسي، ولو ملك الإنسان أسباب السعادة المادية، لأن تصرفاته تكون خالية من مقاصدها الشرعية، "ومن اَعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك ءَاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" [طه، 122-124]؛ • إن المعادلة القرآنية في الثواب والعقاب، تتغيا أن يستحضر الناس هذا الزاجر في سلوكهم حتى تكون أعمالهم وتصرفاتهم الاقتصادية والاجتماعية محكومة بالمعايير الشرعية. يتبع في العدد المقبل.. ---------------------------------------------- 1. محاضرات في الفكر السياسي والاقتصادي، محمد فاروق النبهان، ص: 118. 2. الموافقات للشاطبي، ج: 2 ص: 21. 3. المقدمة لابن خلدون، ص: 150 طبع بدار القلم بيروت، بدون تاريخ. 4. ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، محمد سعيد رمضان البوطي، ص: 31 الطبعة الرابعة 1982 مؤسسة الرسالة، بيروت. 5. الثروة في ظل الإسلام، البهي الخولي، ص: 228 دار القلم الكويتية، الطبعة الرابعة، 1401ه 1981م.