نلاحظ -رغم كثرة ونوعية الجهود المبذولة في مجال البحث في القيم، في عالم اليوم- عدم القدرة على تجاوز العجز عن بلورة أخلاق وقيم عقلية، تلتفّ حول الفراغ الذي خلّفه تدمير السند الديني الاعتقادي للأخلاق والقيم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. لقد أثبت السند الديني للأخلاق والقيم في صيغته الإسلامية، أنه قادر على تجاوز القطيعة بين المرجعيتين الدينية والعقلية، وأنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وأنه لا تعارض بين مصالح العباد، وتشريع رب العباد، فحيثما المصلحة المنضبطة بضوابطها ثمة شرع الله، وذلك من خلال ما يكنّه الوحي الخاتم من إمكانات هائلة للتوفيق بين حاجات الحرية الشخصية، وحاجات بناء السلطة، وبين ما يهدي إليه من انسجام جمالي بين الأخلاق الفردية الخاصة، والأخلاق الجماعية المشتركة، حيث لا تضيع مصلحة الفرد وحرياته، أو حقوق الجماعة وتطلباتها، غير أن هذه الآفاق رغم وضوحها من حيث المبدأ، تقتضي تشميرا تنظيريا، ومنهاجيا، وتربويا، وإجرائيا كبيرا، مما له جملة مقتضيات لا بدّ من تجريد العزم لاستجماعها واستكمالها. وإنه لمن المطلوب اليوم بإلحاح، أن يتم شفع الجهود الهامة التي تبذل في مجال الدرس الأخلاقي والقيمي، باستنطاق صيغ الإسناد الديني للأخلاق والقيم الموجودة في عالمنا، قصد فتح إمكانات أوسع للتأطير الإيجابي والانسيابي بهذا الصدد لأكبر قدر من المجموعات البشرية. ويمكن إجمال هذه المقتضيات في خمسة: أولها: ضبط الإطار النظري، واستكمال التحديد المفاهيمي والمجالي للأخلاق والقيم، في أفق الاستبانة النقدية البناءة لمعالم منظومات القيم السائدة في عالمنا، في اعتبار لمختلف المجالات التداولية التي تحددها طبيعة النظم الثقافية المعيارية المرجعية العامة، وتحددها الأسيقة التاريخية والحضارية؛ ثانيها: الوقوف على مختلف المقاربات المنهاجية المعتمدة في التعاطي مع المنظومات الأخلاقية والقيمية في عالمنا؛ ثالثها: ضبط أضرب الصلة بين الأخلاق والقيم، وما هو سائد في محاضنها من معتقدات ورؤى وتمثلات للعالم وللحياة والأحياء، وتحديد أوجه التأثر والتأثير بين الأخلاق والقيم، وبين المعتقدات والرؤى والتمثلات؛ ورابعها: رصد أوجه التلازم الوظيفي بين الأخلاق والقيم، وبين مختلف تمظهرات التربية والتعليم والإعلام، في أفق استبانة المضامين الأخلاقية والقيمية السارية في النظم التعليمية والإعلامية، وتقويمها من هذا الصوب. وخامسها: الرصد الميداني لتأثير المنظومات الأخلاقية والقيمية على مناهج بناء الذات ونحث الشخصية الإنسانية في بعديها الفردي والاجتماعي، وكذا رصد دور هذه المنظومات في توجيه أضرب الكسب الإنساني في مختلف المجالات. وهذه مقتضيات لا بد منها، حتى لا يبقى التوق في عالمنا إلى رتق ما فُتق من علاقة بين السند الديني للأخلاق والقيم، وبين مناهج التأصيل والتنظير والتفعيل في هذا المجال، مجرد آمان نعيش بها زمن كتابة أو قول رغد، في انفكاك عن تطلبات التنزيل الإجرائي الراشد على أرض الواقع، لهذا البعد المحوري من أبعاد الحياة الإنسانية. والله الهادي إلى سواء السبيل. الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء