لا شك أن هذا التقليد العريق أي -أساليب وطرق انتشار التعليم العتيق ببادية الشمال- في هذه الناحية له ما يشابه في نواح أخرى من المغرب، ولكن تميزه هنا عن باقي النواحي بالشيوع والانتشار يعود إلى أسباب أهمها: 1. حيوية الموقع وميراثه الثقافي فموقع هذه الناحية الإستراتيجي جعلها ذات صلة وثيقة بالشرق الإسلامي من جهة والأندلس من جهة ثانية وبقية نواحي المغرب من جهة ثالثة، ولا ننسى أنها كانت منذ الفتح الإسلامي معبرا من المغرب وإليه، ومن ثم احتكت بالعابرين على مختلف جنسياتهم وثقافتهم وكانت أكثر احتكاكا بالفاتحين المسلمين من غيرها من البلدان المغربية الأخرى؛ لأنهم كانوا يتخذونها مستقرا ومعبرا لهم من الشرق إلى الأندلس، فورث أهلها عنهم هذا الولوع بحفظ كتاب الله واستهلاك قسط من العمر في تعلم حذق إملائه وقواعد قراءته والتبحر في لغته وعلومه. 2. ظاهرت التحدي الصليبي في المنطقة فقد ظلت هذه الناحية على احتكاك مباشر مع الغرب الصليبي منذ قرون، لذلك كان التمسك بالدين الإسلامي وبدستوره القرآن يشكل مقاومة للعدو والمستعمر وروحا جهادية عالية في نفوس السكان على قلة الإمكانيات المادية والتقنية كما زادت ضراوة الصليبين سكان الناحية استمساكا بالقرآن الكريم وإقبالا على تعليمه والتفنن في علومه حتى أصبح تعليمه يحتل الرتبة الأولى بين سائر الفنون الأخرى، ورفضوا التعليم بمدارس الأجنبي وقاطعوها واعتبروا التعليم فيها كفرا وظل هذا الاعتقاد سائدا في هذه الناحية إلى عقد ونيف بعد الاستقلال. 3. العقيدة الإسلامية المترسخة في العقول والقلوب والارتباط الشديد بالدين وعلومه، والميل لحفظ كتابه وفهم مقاصده، والامتثال لأوامر الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حث سبحانه وتعالى على حفظ القرآن وتلاوته فقال: "عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ" [المدثر، 18]، وقال أيضا: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأنفال، 204]، وفي السنة المطهرة أحاديث كثيرة توحي بضرورة حفظ القرآن وتشجيع الأبناء على ذلك منها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يُعَلِّمُ وَلَدَهُ الْقُرْآنَ فِي الدُّنْيَا، إِلا تُوِّجَ أَبُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتاجٍ فِي الْجَنَّةِ، يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِتَعْلِيمِهِ وَلَدَهُ الْقُرْآنَ فِي الدُّنْيَا"[1]، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه سمع ضجة شديدة في مسجد الكوفة فقال: "ما هؤلاء؟ قالوا: قوم يقرؤون -أو يتعلمون- القرآن، قال: طوبى لهؤلاء، أما إنهم كانوا أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"[2]. فهذه النصوص وغيرها كانت الحافز الأساسي لأبناء هذه المنطقة المتشبعين بتعاليم الإسلام وأسسه على بعث أولادهم لأماكن تعليم القرآن وحثهم على حفظه وتجويد قراءته، فما من أسرة إلا وتتمنى أن يرزقها الله طفلا تنذره لحفظ كتاب الله وخدمته، وتكد وتجتهد من أجل الوصول إلى هذه الغاية كما تتأسف وتتألم إذا ما فاتها هذا الخب. ولأبناء هذه المنطقة في التسابق إلى تعلم القرآن وحفظه حكايات ومنظومات زجلية نظمت في فظل القرآن وحفظه، وفضل متعلمه، والحاذق في تلاوته، ورسمه، وتروي منظومة زجلية قصة رجل وزوجته أعطاهما الله ولدا فاختلفا في توجيهه، فالأب يقترح أن يساعده الطفل على نوائب الدهر ومشاكل الحياة بينما الأم تلح على بعثه لقراءة القرآن، فتخاصما إلى القاضي الذي حكم للزوج بأن يشتغل ولده يومين، وللأم أن تبعته للمسجد من أجل القراءة يوما واحدا قياسا على أية المواريث "لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ" [النساء، 11]، فنفذا الحكم ومضى الطفل يزاوج بين العمل والتعلم إلى أن حقق الله أمنية أمه. فلهذه الأسباب وغيرها انتشر التعليم الأصيل بهذه المنطقة، ووجدت مدارس عتيقة ساهمت في نشر علوم الدين، والحفاظ على كيان الأمة المغربية ووحدتها الدينية والمذهبية ومقوماتها وهويتها العربية الإسلامية؛ إذ انتشرت عشرات المدارس أو ما يسمى "بالمسيد" الذي يؤمه الطلبة من أجل حفظ القرآن وبعض المتون العلمية، كابن عاشر في العبادات، والأجرومية في النحو، وغيرها.. ---------------------------------------------------- 1. المعجم الأوسط للطبراني، "بَابُ الْأَلِفِ"، مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ ح: 69. 2. رواه البزار في مسنده، ح: 874. جريدة ميثاق الرابطة العدد 1047 ذو القعدة 1424ه الموافق 26 دجنبر2003م. تابع بقية الموضوع في العدد المقبل بحول الله تعالى..