ظهرت مدينة سجلماسة بجلاء على مسرح الأحداث التاريخية المغربية مع بزوغ الحضارة الإسلامية، وحظيت باهتمام واسع من لدن عدد من الكُتاب القدامى، وجذبت منطقتها أعين المستكشفين الأوربيين منذ القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي. وكانت موضوع دراسات جامعية داخل المغرب وخارجه، وخضع موقعها لأبحاث أثرية من طرف بعثات علمية مغربية وأجنبية، وابتداءً من سنة 1986 كان هذا الموقع محط انشغال المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث. واستمرت مع ذلك في مواراة الكثير من أسرارها الدفينة وفي استقطاب المزيد من فضول الباحثين. فلا غرو في ذلك لما لعبته مدينة سجلماسة من أدوار مصيرية في تاريخ المغرب بصفة عامة. في هذا الإطار سعت الدراسة التي انجزناها سنة 2004 إلى مقاربة ظروف تأسيس المدينة، وتطورها العمراني بناء وزخرفة، وتصميما ومحتوى، وذلك في تقاطع تام مع عدد من التخصصات كالأركيولوجيا، والطبوغرافيا، وعلم دلالة أسماء الأماكن، ومع المصادر المكتوبة ككتب الجغرافيا والرحلات والتراجم والمناقب والمخطوطات والوثائق، إضافة إلى الرواية الشفوية. لقد سمح المنهج المعتمد باستجلاء العديد من مظاهر عمران هذه المدينة، ومكن من تصويب العديد من الأحكام حولها، والحسم في بعض الافتراضات، ودعم بعضها، في رحلة جمعت أحيانا بين فك الألغاز، وحل المتناقضات، وفهم الروايات، وربط المتكاملات، والكشف أيضا عن عدد من المعطيات الجديدة. لقد أثرت الظروف الطبيعية والتركيبة البشرية والمؤهلات الاقتصادية، بشكل مباشر على نمط وتطور عمران مدينة سجلماسة. فهي تقع بين نهرين وبالقرب من موضع يسمى "أكَلف" تغذيه عيون كثيرة. وقد أغفلت الكتابات القديمة والدراسات المعاصرة الإشارة إلى عملية تحويل مياه وادي زيز عن طريق شق قنوات وإقامة سدود تلية للاستغلال الجيد للمياه. ذلك أن صور الأقمار الاصطناعية كشفت عن غنى الطبقات الجيولوجية القريبة من السطح بفرشات مائية مهمة، وسمحت بتحديد موضع العين الرئيسة للماء بسجلماسة على طول الحافة الشمالية لمرتفع "الجبيل". غير أن مياهها لم تكن كافية، وهذا ما يفسر لجوء السكان إلى بناء سدود تلية على نهري زيز وغريس لتلبية حاجيات الواحة بشكل أفضل. كما مكنت تلك الصور من الكشف عن تركز الأراضي الصالحة للزراعة وأهم الأنشطة الفلاحية بالجزء الشمالي من الواحة. كما اشتهرت سجلماسة بإنتاج الحبوب وتربية المواشي خاصة الأغنام والماعز، واحتضنت عدة صنائع مثل الصناعة الخزفية التي حظيت بمكانة خاصة في اقتصادها وفق ما تم الكشف عنه من اللقى في عدة مواقع أثرية مغربية وسودانية. لكن يبقى النشاط التجاري أهم ركائز الاقتصاد السجلماسي وفي مقدمته تجارة القوافل الصحراوية، ويعتبر من العناصر التي أثرت بقوة في التطور العمراني للمدينة. فقد شكل الذهب محور المبادلات التجارية، وأهم الموارد على الإطلاق، ومكن ذلك من إقامة عدة دور لضرب النقود، واستقطاب عدد من التجار من مختلف الأصقاع. وبذلت كل التشكيلات السياسية التي حكمت سجلماسة مجهودات متفاوتة، للحفاظ على سلامة المسالك التجارية وتوفير الأمن الداخلي لضمان تدفق هذا المعدن النفيس. وهكذا، أثر النشاط الاقتصادي على تنظيم المدينة وطبيعة السكن بها، فقد كانت عبارة عن حاضرة مجمعة تمتد على طول وادي زيز، وتنتشر بضاحيتها بنايات متفرقة يستقر بها عدد من الفلاحين. وقد تأرجح اقتصاد المدينة بين احتكار السلطة الحاكمة التي استهدفت تحقيق الأرباح وإغناء خزينتها والتحكم بشكل أفضل في المدينة. وفي فترات أُخر ساد نوع من الرواج الاقتصادي المتفتح استفاد منه المنتجون والتجار على الخصوص. --------------------------------------------------------- هذا الموضوع هو بمثابة خلاصة للأطروحة التي تقدمت بها يوم 18 فبراير 2004 لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس-أكدال تحت عنوان "عمران سجلماسة من خلال المصادر التاريخية والخريطة الأثرية" والتي نشرتها مشكورة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في جزئين سنة 2008. يتبع في العدد المقبل بحول الله..