شارك في هذا اللقاء الأدبي الباذخ ثلة من الأساتذة والباحثين، وجمهور عريض من المهتمين والمتتبعين ورجالات الفكر والثقافة في القاعة الكبرى غصت بهم الخزانة العلمية الصبيحية في سلا بأجوائها الرائعة وذخائرها النفيسة من كنوز المخطوطات وآلات الرصد الفلكي والخرائط القديمة. وبعد أن ألقى مدير المهرجان الأستاذ عزيز الهلالي، كلمة رحب فيها بالمشاركين، وشكر ضيف هذا اللقاء الدكتور الروائي عبد الإله بن عرفة على تلبيته الدعوة لقراءة تجربته الروائية بمناسبة اليوم العالمي للكتاب، أعطى الكلمة للدكتور محمد التهامي الحراق، رئيس الجلسة الذي عرَّف بالكاتب وبإبداعاته وتجربته الروائية في عبارات جامعة، وتحسَّر على تخلف النقد الأدبي في مواكبة هذا الإبداع المتميز الذي لا يوجد مثيله على الساحة العربية. وبعد ذلك تناولت الدكتورة نجاة المريني، أستاذة الأدب المغربي في جامعة محمد الخامس بالرباط، جانباً من تجربة الأديب المحتفى به انطلاقاً من رواية جبل قاف، فذكَّرت ببعض معالم هذه الرواية التي استهل بها ابن عرفة مشروعه الروائي. وتوقَّفت عند السحر الآسر الذي يطبع لغة الروائي وعمق ثقافته، ونفاذ شاعريته لصياغة معمار روائي حول بطل الرواية الشيخ محيي الدين بن العربي. وحاولت أن تسافر بالقراء والحاضرين في رحلة السفر التي قام بها بطل الرواية من مغرب العالم الإسلامي إلى مشرقه، وتناولت مختلف المحطات التي مر منها والقضايا التي تناولها والأشخاص الذين التقى بهم أو أثروا في مساره ورحلته. وبعد ذلك تناول الكلمة الدكتور أحمد زنيبر، الشاعر والناقد الأدبي، الأستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط الذي توقَّف عند تجربة الروائي انطلاقاً من روايته الأخيرة "ابن الخطيب في روضة طه"، فحاول قراءة التقنيات الإبداعية التي وظَّفها الكاتب لتشييد سيرة روائية بلسان المتكلم. وتوقَّف عند روعة هذه التجربة وقوتها الإبداعية ومتانة لغتها وعمق معارفها وخيالها الخصب وجمالية الأدوات والتقنيات الموظفة في بناء الرواية. كما تساءل عن توظيف المادة التاريخية في هذه الأعمال، وبيَّن الجهد الكبير الذي قام به الأديب في إدراج المادة التاريخية ضمن شبكة جمالية منسجمة ومتألقة. وخلص إلى الاستنتاج أن عملا مثل هذا يفترض أن يجيش فيه المبدع قراءاته المتنوعة والمتعددة وثقافته الموسوعية في التراث والفلسفة والفنون ضمن نسق جمالي رائق ومحكم. وبعد ذلك أخذ الكلمة الدكتور مراد الريفي، وهو خبير في الثقافة ومختص في قضايا التراث والعمارة والأنتروبولوجيا. فأتحف وأبدع في وصف تجربة الدكتور عبد الإله بن عرفة الروائية انطلاقاً من روايته الأخيرة "روضة التعريف بالحب الشريف" بلغة شاعرة متألقة تعالقت مع لغة الأديب. وتوقَّف الناقد المبدع عند محطات كثيرة من تجربة الأديب ابن عرفة، وتناول قضايا في غاية العمق بافتحاص رزين. وبيَّن أن كل من يقرأ أعمال الأديب ابن عرفة يصاب بالذهول والروعة والسحر، وذكر بعض الشهادات لتدعيم قراءته، والتي تقاسمها مع بعض أصدقائه من القراء. وقد حاول الناقد مراد الريفي أن يفسر سرَّ هذا الشعور العام الذي يكتنف قارئ هذه الأعمال الأدبية، ورآه متجلياً في قوة لغة الأديب ابن عرفة ومتانتها وسحرها. ووصف هذه اللغة بكونها "القوة الضاربة" في تجربة الأديب ابن عرفة التي تملك على القارئ وعيه وإحساسه، وتلُجُّ به في هذا البحر الأدبي الذي لا ساحل له. وتوقَّف عند تقنية فريدة وظَّفها الروائي هي تقنية الوصف الإثنوغرافي، وبيَّن بعض ملامحها في المعاجم الغنية التي تزخر بها هذه الروايات حول العمارة والطبخ والموسيقى والعطور، مما يشكل ثقافة موسوعية تستحضر الحضارة العربية الإسلامية في أروع نماذجها. ولم يفت الناقد أن يدعو في ختام بحثه الرصين، المبدعين السينمائيين وغيرهم إلى الاستفادة من هذه التجربة الغنية في صناعة الفن السابع وفق هذه الرؤية الحضارية المتقنة أدبياً، والمصاغة سينمائياً بما تتيحه من معمار روائي وحوارات تسهل على السينمائي صياغة مادته السينمائية. وبعد ذلك تناول الكلمة، الأديب المبدع الدكتور عبد الإله بن عرفة، الذي تحدث في البداية عن اليوم العالمي للكتاب وعن حضور مدينة سلا في إبداعاته المختلفة، وذكر الحاضرين بأن يوم 23 أبريل يوم مهم لأنه شهد وفاة عميد الرواية العالمية سيرفانتس، ووفاة عميد المسرح العالمي شكسبير، وولادة أدباء عالميين آخرين مثل نابوكوف. ولأجل هذه الموافقات، اتخذ المنتظم الدولي هذا اليوم عيداً للاحتفاء بالكتاب والمبدعين. وبعد مقدمات عامة، بيَّن فيها أن النقد الأدبي هو خطاب نسقي لوصف كتابة روائية غير نسقية كما تتجلى في تجربته الإبداعية، ودعا النقاد إلى تثوير مناهجهم وتطويرها لمسايرة هذا الأدب الجديد. ثم تحدث الروائي عن تجربته الروائية وأعطى بعض المفاتيح الأدبية للرواية العرفانية التي يحمل لواءها. وقد لخصها في أربع مميزات كبرى هي: توظيف المادة التاريخية دون الخضوع لمفهومها للزمن، إعادة الاعتبار لمفهوم الأدب من خلال اللغة المتينة، معالجة قضايا حضارية، البعد الروحي الناظم لهذه الأعمال، والذي أسماه "الكتابة بالنور". وبعد ذلك، فصَّل الأديب الروائي في هذه المميزات بشكل رائع ولغة بديعة كأنها السحر، فجمع بين سحر فتح العبارة نظماً ونثراً، وسِرِّ فتح الإشارة حديثاً وكتابة، وأخذ بمجامع أفئدة وعقول الحاضرين الذين تركَّزت مداخلاتهم بعد ذلك في تأكيد هذا الشعور بهذه المتعة الساحرة، والاستفهام عن بعض القضايا المطروحة في أعمال الروائي عبد الإله بن عرفة، والدعوة إلى اهتمام النقاد بالمتابعة النقدية لهذه الأعمال الكبيرة، ودعوة المخرجين السينمائيين إلى إنتاج أفلام تستمد مادتها السينمائية من هذه الأعمال الحضارية. وقد استمر هذا اللقاء الأدبي الرفيع ثلاث ساعات كاملة لم يغادر فيها الحاضرون مقاعدهم. وفي نهاية اللقاء، سلم السيد مولاي إسماعيل العلوي رئيس جمعية سلا المستقبل، والأستاذ أحمد الصبيحي ناظر الخزانة العلمية الصبيحية، هدية رمزية إلى الأديب ابن عرفة، هي عبارة عن مجموعة من إصدارات هذه المؤسسة العلمية. كما التزم رئيس جمعية سلا المستقبل بطباعة الأبحاث المهمة التي قدمت خلال هذا اللقاء ضمن الحصيلة العلمية للدورة الرابعة لمهرجان سلوان الثقافي برسم 2012.