صاحب الحركة الفكرية الإصلاحية الحديثة قدرة فائقة على استمداد النقد السامي واستلهام التصور الشمولي في تأمل مشاكل الأمة الإسلامية ومدارستها. وقد ظهر عدد من الرواد الذين بلغوا حدا من السمو الفكري الذي أهلهم للنظر الاستيعابي والتبصر الاستغراقي في جل قضايا الفكر الإسلامي الحديث. من هؤلاء الرواد الحداة الأستاذ محمد البهي، فقد كان رحمه الله من الباحثين القلائل الذين تتبعوا بعمق الحركات الإصلاحية، وعرفوا عن قرب مهمة كل حركة بمعزل عن غيرها من الحركات الأخرى، حتى اشتهر عنه قوله: كان الاستعمار فكانت حركة الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وكانت الوضعية والماركسية فكانت حركة إقبال.. وقد اهتم الأستاذ البهي أيما اهتمام بدراسة الإسلام في واقعه الأيديولوجي والمذهبي المعاصر، الشيء الذي جعله يعزو اختلاف الناس في الرأي واختلافهم في تطبيقه إلى الاختلاف في تحديد المفاهيم، وهذا ما بوأه أن يكون من أوائل الداعين إلى ضبط المفاهيم والمصطلحات وتحديدها بغية تأسيس أرضية صلبة للمنهج المعرفي للفكر الإسلامي الحديث. ويلاحظ أن قسطا كبيرا من أبحاثه ركزت على العلاقة التي تجمع بين الفكر الغربي والمجتمع العربي الإسلامي، والآثار الناجمة عن هذه العلاقة، سواء على مستوى الأسرة الصغيرة أو على مستوى المجتمعات كأسرة كبيرة، ولهذا جاءت دراساته مركزة على مشكلات الأسرة والتكافل، وعلى مشكلة العلمانية والديمقراطية والثروة القومية، ومشكلة العمل والعمال والمعامل، ومشكلة التأمين والبنوك، والنمو السكاني.. ومن مميزات منهجه كذلك أنه لم يقتصر على تعداد هذه القضايا ومشاكلها، بل ربطها بالإسلام وحاول إعطاء حلول ومقترحات، ولهذا فهو يرى بوجه عام أن "وجود" الله في حياة الإنسان مصدر الخير والبركة.. وأن "غيبته" تتيح أن يحل الشيطان محله في هذه الحياة، وبذلك تكثر المشاكل، وتحتد الخصومة والصراع، ويزداد التسيب والتواكل. ولهذا كان الأستاذ البهي كثيرا ما يساوي بين تكريم الإنسان وبين تمكينه من السيادة على ما في الكون، وجعل مصادر التمكين من هذه السيادة هي وسائل المعرفة والعلم.. وقد أورد الأستاذ وهبة مجد وهبة في كتاب (حياتي في رحاب الأزهر) شهادة في حق هذا المفكر الألمعي ذي التصور الشمولي، حيث أكد فيها أنه كشف أساليب أعداء الفكر الإسلامي، ووضع البرامج والأساليب المؤدية لإقامة المجتمع المسلم الفاضل، وكان في كل ما يكتبه حربا على العلمانية والكفر والإلحاد، وربط ثقافته الإسلامية النابعة من كتاب الله وسنة رسوله بدراسته الفلسفية الأوروبية -الشرقية والغربية- برباط واحد وثيق، مستخلصا منها النفيس الأصيل، طارحا الزائف والدخيل، تحت راية واحدة لتكون كلمة الله هي العليا..