مقاصد الميراث النبوي يمكن جمع جملة المقاصد التي تحكم ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مقاصد كبرى، وهي: 1. القراءة والتلاوة لقد وقفنا على معنى القراءة فيما مضى، فتحصل لدينا أن القراءة نوعان: قراءة في الكتاب المسطور، وقراءة في الكتاب المنظور. والتلاوة تأتي بمعنى القراءة تارة، وتأتي بمعنى التبع تارة أخرى. آية هذا المقصد قوله تعالى: "اِن في خلق السماوات والاَرض واختلاف الليل والنهار ءلاَيات لأولي الاَلباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والاَرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك، فقنا عذاب النار" [اَل عمران، 190-191]؛ 2. التزكية الفردية والجماعية إن الهدف من حث القرآن على التفكير وجعله فريضة هو تزكية هذا الإنسان والسمو به إلى أعلى المراتب العلمية والتربوية، ولهذا القصد مستويان: مستوى فردي، ومستوى جماعي. وما حصل لبعض الصوفية من تقديم للمستوى الفردي في التزكية على المستوى الثاني هو تقصير في حق التزكية بمعناها الشرعي. ذلك أن هذا الفرد معرض لأن يفقد هذه التزكية تحت تأثير الثقافة المحيطة به، ولذلك كان لزاما في عملية التزكية الاهتمام بالجماعة كما هو الحال للفرد؛ لأن الانفراد والتفرد دائما فيه تعريض للخطر، ولا يأكل الذئب إلا الشاة القاصية المنعزلة عن القطيع. كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد"[1]. ومن الآيات التي يستشهد بها على هذا المقصد قوله تعالى: "قل اِنما أعظكم بواحدة، اَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا" [سبأ، 46]. ومحل الشاهد فيه هو في لفظي "مثنى" و "فرادى"، فما يراه الفرد ويحس به ليس ما يراه ويحس به الاثنان والجماعة، فالتزكية تزيد ويشتد قوامها بتعدد الذات المفكرة والعقل المتدبر. والآية، بالمناسبة، من أوضح الآيات التي يستند إليها الأصوليون في استخراج بعض المعاني الكلية؛ 3. جلب المصالح ودرء المفاسد إن محل هذا المقصد يرجع أصالة إلى مجال معرفي ذي بال، وهو أصول الفقه. ذلك أن لب علم الأصول هو الاجتهاد، والاجتهاد كل الاجتهاد إنما يروم جلب المصالح للناس ودرء المفاسد عن العباد. والاجتهاد في اصطلاح الأصوليين: "بذل الجهد لاستنباط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية"، وهذه خصيصة مقصدية تنبني على ما قبلها كما يدل على ذلك قوله تعالى: "لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسول الله من اَنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" [اَل عمران، 164]. وهذا يعني أن العلم الذي يعود على الناس بالنفع يأتي في الدرجة الثانية بعد حصول التزكية، وأن العلم النافع لا يكون كذلك إلا إذا سبقته تزكية للنفس. وهذه من النكت البليغة التي تنم عنها الآية الكريمة؛ 4. التفكير العميق والمتواصل في جميع مخلوقات الله تعالى إن القرآن الكريم لما استصرخ الفهم ودعا العقل إلى التفكير في ملكوت الله تعالى والتدبر في كونه، إنما أراد من ذلك أن يتوصل الناس إلى معرفته من خلال ما يحيط بهم من الدلائل الكونية على وجوده تعالى. وهذا الضرب من التفكر هو من باب التوحيد. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التوحيد لا ينفك عن واقع الناس، وهذا ما يجب أن يلتزم به عند الدخول في غمار القضايا العقدية، لا أن ترتبط قضايا التوحيد بالتجريد العقلي البعيد عن واقع الناس؛ 5. تعلم الحكمة والاتصاف بها والحكمة كذلك هي أيضا من المقاصد النبيلة التي يرومها الميراث النبوي الشريف. وهي صفة تأخرت في الرتبة عن التزكية والعلم كما سيقت في قوله تعالى: "لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسول الله من اَنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" [اَل عمران، 164]. علاقة المسلمين بالموروث النبوي وواجبهم تجاهه إن أول ما يجب على المسلمين تجاه هذا الميراث النفيس بعد فهمه والعمل به هو إظهاره للناس كافة. وذلك لما مر من الخصائص التي تتميز بها الرسالة النبوية المباركة على جميع الرسائل الأخرى من: شمولية، وهيمنة... فهذا الميراث ليس خاصا بقوم دون قوم، بل هو عام لجميع الناس، لا يتفاضلون فيه إلا بحسب قربهم منه أو بعدهم عنه. ولا بد هاهنا من الإشارة إلى أن القرآن الكريم كان له قدم السبق في الدعوة إلى الحوار بين الأديان والتركيز على القيم والقضايا العقدية المشتركة، والأصل في ذلك هو آية السواء من قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا اِلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اَربابا من دون الله" [اَل عمران، 63]. هذا فضلا عن أن المسلمين مسئولون أيما مسئولية عن حفظ هذا الإرث النبوي غضا طريا للأجيال اللاحقة. وخلاصة الكلام أن ميراث النبي صلى الله عليه وسلم هو ميراث المنهج الذي كان عليه، هذا المنهج يعتمد على التفكر والتأمل في الكتابين: المسطور والمنظور، والقصد من وراءه الوصول إلى سعادة الدارين بتزكية النفس والتعاون الجماعي والتعارف الكوني والتسامح الأخوي. ------------------------------------------------ 1. أخرجه أحمد في مسنده، والبيهقي في شعبه.