وهكذا المرء إذا اعتاد الصدق في أقواله وأفعاله أحبه الناس ووثقوا به وأثمنوه في المعاملة، وكان عضوا عاملا في خدمة قومه ووطنه، وإذا عرف منه الكذب زهدوا فيه وملوا مجلسه وشكوا في كل قول يصدر منه. فعلى الصدق والكذب يؤسس مستقبل المرء ومركزه الشخصي، وبمقياسهما تحدد درجة اعتباره ونجاحه في هذا الوجود، وعلى العاقل أن يتمسك بالصدق ولوا أدى به إلى الضرر، وأن يتجنب الكذب ولا ينخدع بزخرف عاجله ونشوة باطله. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تحروا الصدق: وإن رأيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة". يقول سبحانه وتعالى: "اِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَذِينَ لَا يُومِنُونَ باَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ" [النحل ،105]. "فعن سويد بن سعيد عن مالك عن صفوان بن سليم قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: "نعم". قال: أفيكون بخيلاً؟ قال: "نعم". قال: أفيكون كذاباً؟ قال: "لا"، فانظروا كيف جعل الكذب لا يجتمع مع الإيمان أبدا.. ويشبه هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "يطبع المؤمن على خلق إلا الخيانة والكذب". ويقول: "لا تجتمع خصلتان في مؤمن البخل والكذب". ويقول: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان". "ويقول أعظم الخطايا اللسان الكذوب"، ويقول: "أحب الحديث إلي أصدقه". وعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أنه قال: "دعتني أمي [ليلى بنت أبي حثمة] يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ فى بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرا!!، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة" [رواه أبو داود]. وربة البيت والطفل والخادم إذا آنسوا من رب البيت كذبا وخداعا جاروه في هذا المضمار لا شيء يضمن الراحة والهدوء في العائلة مثل أن يجعل ربها عماد معاملته لأفراد أسرته الصدق والإخلاص وتحري الحق في القول والعمل، وجوز بعض العلماء الكذب في الحرب لأن الحرب خدعة، ومثله الكذب في إصلاح ذات البين بين الأخوين، أو الأختين، أو الصديقين. ويدخل في بحث الصدق والكذب، "الوفاء بالوعد والنكت به والفرق بينهما: أن الأولين يكونان في الأخبار الماضية، والأخيرين في المواعيد الأتية، وفي هدا المضمار يقول الجاحظ: "الصدق والوفاء توأمان بينهما صلاح الدين والدنيا، والكذب والغدر توأمان وهما سبب كل تفرقة وفساد". ذ. الطاهر العروسي جريدة ميثاق الرابطة، العدد 748، الخميس 19 جمادى الأولى1417 ه / الموافق 3 أكتوبر 1996، السنة التاسعة والعشرون.