وبفضل الله وحسن توفيقه نتابع من فوق هذا المنبر المبارك الذي يدعم الرجال المخلصين الحاملين لمشعل الاستقامة، أن يأخذ طريقه باطمئنان وثقة، رغم العقبات والعراقيل والمثبطات التي تواجه كل عمل هادف، في إطار اليقظة الشاملة، ليبقى بحمد الله واضح المعالم، نقي الصورة، جريئا في كلمة الحق، نائيا بنفسه عن اقتناص المكاسب الرخيصة، مخلصا في النصيحة. وإن حصيلة التجربة لكل أسرة مع بناتها وأبنائها الشباب في مقام الاستقامة لا يمكن إغفالها ولا الاستهانة بها، وإنما ينبغي لكل مجتمع يريد الخير لشبابه، دراستها والاستفادة منها؛ لأنها في الواقع تعين الشباب على التكيف، وتثمر الواقعية البناءة، التي لا تبعد عن المحور الأساسي للاستقامة، والإنسان الواعي يظل يرقب التجارب الإنسانية، ويرصد سيرها واتجاهها ومن خلال التأمل والمتابعة؛ فإنه يلفى الزمن هو الذي يحكم لها أو عليها، لذلك فلا ينبغي مصادرتها منذ البداية، توقيرا لحصيلة التجارب البشرية في هذا الميدان، فإذا ثبت لديه صلاحها فهي رصيد صالح لشباب البشرية ينتفع بها ويستفيد منها. وعليه فالإنسانية لا ينبغي أن تنخدع ببعض الشعارات درءا للأخطار التي تواجه شبابها، والتي يرفعها البعض عنوانا لعملهم ومبادئهم، ولكن ما أقبح المضمون عندما تتعرض شعاراتهم المزعومة للاختبار والتمحيص، ولذلك يميز الخبيث من الطيب والمعوج من المستقيم؛ لأنه كما قيل في المثل: "إن بطاقة السكر على وعاء الحنظل لا تجعله حلو المذاق"، فبعض الأشخاص يحيرك أمره، ويعييك خبره، ولا تدري كيف تعامله، حيث أنك لا تأمن من غدره، ولا تطمئن لجانبه، بينما هو أمامك محب واثق ومخلص مريد، فسلوك كهذا إذا لم يحاصر في أوكاره، ويلاحق في امتداداته، ويوقف زحفه؛ فإنه سرعان ما يستشري في شريان الحياة النظيفة المستقيمة للشباب في غفلة من الأُسر، فيفسدها ويسممها بالأراجيف والأكاذيب، وطمس الحقائق وتثبيط الإرادات، وإشاعة التواكل المزري، وتوهين العزائم وإخماد المعنويات. ومن العجيب في صفاتهم أنهم يزعمون الاستقامة والإصلاح، وما قصدهم إلا الفساد والإفساد والانحراف والاعوجاج، وصدق الله العظيم إذ يقول: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الاَرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" [سورة البقرة، الآية: 11 -12]، كل هذا بفعل الطواغيت من المنافقين أتباع كل ناعق، واللاهثين ركضا وراء كل جديد من فتن الحياة وبهرجتها، حتى ولو كان ذلك على حساب المبادئ المستقيمة والأخلاقيات الفاضلة، لذلك فأنا أنصح الأسر المسلمة التنبه لهؤلاء المغرضين والقعود لهم بكل مرصد، وإبعادهم عن بناتهم وأبنائهم الشباب، وطردهم من دنيا المسلمين أشباح الشقاق، لتحل الاستقامة والوفاق. وأنا هنا أستحضر عظمة الاستقامة في شخص الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو يمارس ببطولة نادرة الامتحان العسير، ويخرج منه بانتصار يشرف الإنسان المسلم في كل زمان ومكان، رغم أنه فقد عبر ساعاته الصعبة ولحظاته الباهظة زهرة عمره، وسني شبابه، وهو في العنفوان، بل إنه فقد حياته نفسها ثمنا بالفوز الذي حققه للعقيدة والتاريخ والشخصية البشرية المستقيمة على السواء. ومن وراء عمر نستحضر حشدا آخر من الرجال المستقيمين الذين صنعهم كتاب الله، وصاغهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحشد المستقيم الذي يقف الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام نفسه في قمته، وهو مثل باهر على قدرة الشباب المسلم النزيه المستقيم الذي رعته أسر مسلمة مومنة برسالتها فجعلته في قمة الدنيا، يطل من سقفها العالي، فتلتمع صور الاستقامة ضوءا كثيفا مركزا كالشهب الثاقبة في ليلة شديدة الحلكة عميقة الظلام، الاستقامة التي تجعل المسؤول المسلم قادرا على مجابهة السلطة وإغراءاتها، وأبوابها المشرعة التي تنفتح من حيث لا يشعر الإنسان أحيانا، على الأخذ الذي يزداد ويزداد حتى يغدو مع مرور الأيام والليالي سرقة وسلبا وابتزازا، وترفا وتخمة وفسادا وإفسادا، وتنقفل على العطاء الذي يشح ويشح حتى يضحى جبنا وغلا وجبروتا وطغيانا، إننا هنا نقف بمواجهة ما يمكن تسميته بأخلاقية استقامة العدل الاجتماعي، فالمستقيم الحقيقي هو الذي يملك السلطة وينقلب على ذاته يغير في تركيبها الداخلي، منازعها ودوافعها، ليسكت من جهة أخرى نزواتها وشهواتها، وأن يقابل التاريخ الذي لا يرحم متجردا من هذا كله، عاريا من كل الستائر والبطائن التي قد تحجب أو تخفي، قديرا على العطاء الدائم صامدا بوجه الأخذ والإغراء. وتقوى الله هي القوة الباطنية التي تمنح المسؤول المسلم القدرة على الاستقامة وعلى المجابهة الصعبة بالتغيير الذاتي الدائم والتبديل المستمر أمام أبنائه وبناته الشباب، وتعطيه الإمكانية لمجابهة الضغوط الخارجية، وحل المعادلة الصعبة، واستمراء الجهد الشاق والنصب والتعب والإرهاق؛ لأن السقيم المنحرف المعوج لا يمنح المرضى صحة وعافية، والبئر المرة العفنة لا تنضح حلوا، لا تنضح إلا العفن والمر، والمستقيم هو الذي يتفوق بتقواه على إغراءات الجاه واللقب والسلطة، ويستطيع أن يتجرد من كل ما من شأنه أن يقطع الحبل بينه وبين طرفي القضية -الله والجماهير-، ويرفض كل ما من شأنه أن يكون في طياته الكذب، والزيف والمبالغة... والرجل المستقيم والمرأة المستقيمة في الأسرة هما اللذان يدعوان لأبنائهما ولبناتهما الشباب: اللهم أصلح أبناءنا وبناتنا الفقراء إلى رحمتك، واجعلهم خاضعين لهيبتك معتصمين بقوتك. والمستقيم هو الذي يحقق التواصل مع حقيقة الألوهية، والتجارب مع حركة الكون والموجودات وفي تعبد يجعله في قلب المسؤولية وهو أشد خشية، وأمضى عزيمة وأقدح ذكاءا، هذا هو المنطوق الذي علمنا إياه الإسلام والذي يجعل التعبد ممارسة إيجابية تضرب في أعماق الناس فتغير نفوسهم، وتمتد إلى حركة التاريخ فتصوغ مسيرته نحو الاستقامة. والمستقيم هو الذي يتبين مواقع الموت القريبة، ويظل ذهنه وحسه ووجدانه مطبوعا بالرؤية الرصينة للكون والحياة والأشياء، لا تعتمها إغراءات الجاه والمنصب والسلطة، ولا تحيطها بالضباب نزعات القوة، والمستقيم هو الذي يعلم أن له رسالة في الحياة، والحياة مهما امتدت فلها نهاية؛ لأن الأجسام إلى فناء، وأعمار المخلوقات إلى انتهاء، والحياة أقوال وأخلاق وتصرفات ومواقف، وما بعد الوفاة حياة أخرى أبدية، فيها حساب وثواب وعقاب، وروضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار: "يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا" [سورة مريم، الآية: 85-86]. والاستقامة في الأسرة مشكاة نورانية تصدر عنها الفضائل، وليس المراد بالفضيلة مجرد الفكر وحده، وإنما المراد بالاستقامة الاعتدال الذي هو الوسط الأخلاقي والفكر المستنير، هي المنهاج الرباني الكامل، بل هي نظام الحق المستقيم المنزه عن كل اعوجاج. ومهما اشتد الصراع بين أصحاب القامات الفارهة المستقيمين، والأقزام والفطريات؛ فإن النصر دائما لأصحاب المبادئ الذين يؤمنون بالله، ويثقون بعاجل وعده، وبالغ وعيده هم القدوة الصالحة بهم يقتدى، وأثرهم يقتفى عنهم يؤخذ السلوك الطيب الذي ينفع أصحابه وينفع الناس جميعا، هم الذين صنعوا الماضي أجيالا عظيمة حملت راية الإسلام خفاقة فوق كل ربوع الدنيا، وستظل الفطريات والأقزام مهما توفرت لها وسائل الجاه في مكانها تافهة حقيرة لا تعدو قدرها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته يتبع