الأمة بين صنفين من الأطفال، جيل يمثل علامة مضيئة في تاريخ فكرنا الجديد المعاصر، آية في العمق والنضج، وشجاعة نادرة لاقتحام المجهول، ورغبة أكيدة في خوض المعارك الفكرية دفاعا عن الحق بتنوع وثراء، يبحث لأمته عن موقع جديد وعوالم جديدة، بفكر متفتح يقارع الفكر المغلق الجامد الذي انتهى عصره وزمانه، ويأخذ الأهبة للاحتياط لنفسه من الفكر الوافد الدخيل، لا يرضى لنفسه ولا لأمته إلا موقع الإبداع والتجديد، يرى أبعد ما يراه الجامدون الذين يعانون فقرا أدبيا أدى بهم إلى النظر إلى الوراء والبكاء على الأطلال، وكأن الله سبحانه خلق عيونهم في مؤخرة رؤوسهم، وليس في مقدمتها يبني لأمته نقاط القوة وفي نفس الوقت يجابه الجيل المستلب الذي يرضع في أثداء الفكر الوافد الدخيل، وإن شئت فقل جيل يحمل هم الأمة. هم التوفيق بين أطفال العالم الإسلامي والعالم الغربي، هم ما يزال على قلوب كثير من علمائنا ومثقفينا المعاصرين، ثقيل تنوء بحمله شم الجبال وكبير على قدر مشاكلنا، وهو هم بدأ يتحول في بعض النفوس إلى قلق متزايد، ينذر بأزمة حقيقية ستلف حاضر أطفالنا إذا لم تتخذ مبادرة للتوفيق بين ما هو نابع من جذورنا وبين ما هو وافد، وإلا سوف تتكرر المأساة من جديد بين الإخفاق الفكري والانبعاث الحضاري، أو ما يسميه البعض تصادم العصرنة والسلفية. وإذا كانت الشكوى التي نغوص اليوم في وحلها؛ فإن بعض مسببات تخلفنا هو هذا الانقطاع المريب بين تاريخ نهضة الإسلام الأولى، وبين حاضرنا الذي تجاوزه الواقع المعاش، والسؤال الذي يجب أن يطرح، هل الأزمة التي تقيد مسعانا هي أزمة فكر أم تنموية؟ وحتى لا تضيع الفرصة من بين أيدينا في هذا العالم المتغير للخروج بالأطفال من أتون هذه الهموم، يجب دعم جهود المخلصين في تقليص الفجوة بينهم وبين أطفال العالم المتقدم، وحتى لا يجدوا أنفسهم أسرى وضعية شاذة، تدفع بهم إلى الانصراف عن الأرض وبشكل مفاجئ، دون أن يكونوا مهيئين لمواجهة من يملك الواقع ويحتكر الحلم، والله تعالى خلق الأطفال بفطرة صافية مستقيمة فإذا تلقى هؤلاء الحياة بهذه الفطرة، مع الوسط الاجتماعي والطبيعي حولها وتدرجت في النمو قويت الأجسام، وتفتحت مدارك الوجدان، والفطرة المنورة لدى الأطفال إن وجدت الأيدي الأمينة، لابد لها من الإشراق، لتبقى نقية بيضاء نقاء الدين الإسلامي، تقدم الزاد النافع للدنيا والآخرة بمشكاة تنتقل من السلف إلى الخلف، مستمدة من وحي يتلى ونور يهتدى به، وما الأطفال في هذه الدنيا إلا مرآة تعكس نهضة الأمم وحضارتها وتقدمها، أو تأخرها وانتكاسها، والأطفال بجمرات الصبا يحملون هم الأمة وما تحياه من ضنك وعذاب وما يلاحقها من شدائد ومصائب، هموم تؤجج طموحهم لينتقلوا بها من محطة التواكل والخنوع إلى مواقع اليقين والعمل، وهم يكابدون عملية الإبداع وخلق الأفكار ويعتصرون ما بين أيديهم من حقائق أسلافهم العظام ليستخرجوا منه رحيقا حضاريا جديدا. وإذا ترك الأمر على ما هو عليه فالمشاكل تتفاقم، ويصبح الهم الأول عند المسلمين، أطفال عاطلون، وعبئا ازداد مع الأعباء الأخرى على المجتمع وحتى نكون منصفين فلابد من الاعتراف بحيرتنا، ونحن مجتمع فريد من نوعه يحتوي أطفالا فيهم العصري، والقبلي، والمدني والبدائي والريفي، مزيج غريب يشكل أمة تتشابك مع بعضها البعض يجمعها القرآن الكريم حوله، وتضمها السنة الغراء للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو رابط متين تعضده ذكريات التراث بما فيه من انتصارات ومتاعب، وما يدعو إلى الثقة بالنفس استعدادا للسير إلى الأمام. وما هذه المآذن التي تشق عباب السماء، إلا عنوان لرمز الإسلام الذي تتطلع إليه أنظار أطفالنا؛ لأنهم يرون فيه دين الحرية والانطلاق، والسمو والرفعة لاختراق كل قلاع البغي والضلال، الصالح لكل زمان ومكان، بما في ذلك عصر الفضاء بفخامته وبساطته في آن معا، مما شكل منصة تتجه الأيدي والأنظار والأفئدة بالدعاء وهي ترمز إلى معنيين، ابتهالات وتضرع خاشع إلى الله واهب المعرفة والعلم، واستخدام العلم والمعرفة لرفع مستوى الأمة، هذه الأيدي الضارعة أملنا أن نراها تعلمت لتساهم في بناء نهضة في كل موقع صناعي وتجاري وزراعي ومؤسساتي، إذ لابد لها أن تماشي الطريق الجديد لإدراك الهدف في المستقبل القريب، معلنة عن بداية عصر جديد، عصر الآلة الذي لا يرحم، وكفانا وهما أن نقول أن هذه الأيدي غير قادرة على إدارة الآلة، فهو قول عصره ولى وأدبر، ونحن بصدد بناء جيل من العمالة المؤهلة تقوم بدورها في قيادة حركة نهضوية تطمئن إلى غدها وتؤمن بيومها. وإذا كانت ظروف الماضي المادية والتعليمية والبشرية أثرت على ظروف العمل والتخطيط والتنفيذ، فها هي ملامح الأفق في الحاضر تبشر بأطفال سيتولون حمل مشعل الحضارة بفهم يعون ما يدور حولهم، وإذا كان الاهتمام بالأطفال من أهم العلامات الحضارية في حياة الأمم المتقدمة والأمم التي ترنو إلى التقدم، وجب أن تشهد أرض الإسلام اهتماما متزايدا بالأطفال، ما دمنا نطمح للخروج من واقع هم التخلف إلى دنيا التقدم والحضارة، فأنجح بناء سوي يجب أن يقوم على الأسس والأصول التي لا تنسي الآمال الكبيرة التي عاش الآباء والأجداد من أجلها. والأمة التي تسير بقلوب يعمرها الإيمان نورها يهديها هي وأطفالها في بيداء الحياة؛ ذلك لأن المستقبل للإسلام الذي يكتسح اليوم الأرض بقيمه الإنسانية رغم المتاعب والعوائق، بصدق أتباعه وإخلاص أبنائه، والأطفال هم القادرون على تطعيم واقع المجتمعات الإنسانية المتعفن، بالقيم والمثل التي نادى بها الإسلام وهم الأقدر على تجاوز الكوارث، وتحويل مظاهر الفشل إلى عناصر طافحة بالحياة، هي جوهر الدين لتنظيم الصلة بين الإنسان وربه، خالق الكون والحياة، بل هي قيم تنظم كذلك، العلاقة بين الفرد والجماعة لما لها من صفة الثبات والاستمرار والدوام. وإذا كان من حق أطفالنا بل من واجبنا نحوهم أن نعرف وإياهم ما يقوم به الأعداء والمثبطون، ليكون الأمر في وضعه السليم الصحيح موضع يقظة وحذر؛ لأن أغلب الأعداء والمثبطين يقرنون سوء الفهم بسوء النية، وذلك بضم أصواتنا إلى أصوات أطفالنا لنتحرك معا إلى المكان الذي نحصن به فلذات الأكباد من تربص المتربصين من دعاة التغريب من أبناء جلدتنا وأعداء الإسلام، بالصادقين الغيورين على الإسلام والمسلمين غيرة عاملة كارمة وليست غيرة ثرثارة ليصنعوا تاريخا مزهوا بالأمجاد يضع حدا نهائيا للتمزق والضياع، وإرساء منهج التعاطف والتآخي والتراحم والارتباط، بجيل لا ينال منه الوعيد ولا التهديد، ولا يغريه بريق المال والمنصب يتأسى بقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" راوه أصحاب السنن. وأمتنا اليوم أحوج ما تكون إلى جيل من الأطفال يسد منافذ الفتنة، ولا يسمح بثغرة في كيان أمته تطل منها رياح نار الفرقة، يتخذ من القرآن منهجا يهديه السبيل، ومنارة تنير الطريق جيلا يحرر الأرض والمقدسات، وينسي أمته خلافاتها لتدفن الخصومات وتسترد الكرامة السليبة يعمل بقول الله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" [سورة الانفال، جزء من الآية: 46]. ورحم الله الشيخ محمود شلتوت القائل: "إن الإنسان في هذه الحياة، وفي كل ما يزاوله من أعمال، لفي حاجة إلى قوتين، يباشر بإحداهما عمله، ويقوي بالأخرى روحه المعنوية، وبغير القوة في جميع ميادينها نفسية كانت أم حسية لا يتسنى عمل، ولا يتحقق إنجاز" انتهى. وأنا من فوق هذا المنبر أقول بقدر ما يخدم الأبناء الأمة تكون قوية متقدمة سعيدة، وتكون أشقى وأضعف بقدر ما تقاعس الأبناء عن خدمتها وبنائها، وإذا كان الآباء والأمهات مثالا يحتذى، وصورة مشرقة للإسلام الصحيح، والإيمان القوي الصادق، ستبقى شمس الإسلام ساطعة، وأرضه منيعة الحمى، والخطر يأتي من المفسد الناشز، والعضو الفاسد الذي يروج للرذيلة والفاحشة ويشق بنيان الإسلام المرصوص فهو عضو خبيث تقتضي المصلحة بتره، وكما قيل استئصال الداء وهو في المهد وقتل الثعبان وهو فرخ، وإطفاء النار وهي شرارة، عملا بما رواه مسلم والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جميع فاضربوه كائنا من كان"، ورحم الله الشاعر محمود محمد بكر يوم قال: يزعمون الحياة فيما رأوه كلها متعة وجاه ومال آه من هذه المآسي وآه إنها اليأس والضنى والضلال إنما جوهر الحياة ارتقاء واتقاء لربنا وابتهال وإبداع المعرفة وتحريكها لدى الأطفال، هو الطبع وطول النظر، والمراجعة والتفتيش في أقوال وأفعال الأوائل من سلف هذه الأمة لاستخراج كل خبيئة، وبعث الفكرة من وراء الفكرة، لنسج أفعال وأقوال بعد استخراج الخيوط منها على منوال ما فعل الكبار، لمراقبة حركة عقولهم وهم يكابدون عملية الخلق والإبداع، ويعتصرون المعاني السامية من حقائق سلفهم باستخراج رحيق لحضارة جديدة له عبقه وشذاه. وختاما أسأل الله سبحانه أن يهدي أطفالنا إليه، وأن يهدي بهم من وراءهم. والحمد لله رب العالمين وهو ولي التوفيق.