للغة العربية ميزة فريدة هي شرف نزول القرآن الكريم بها على الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أفصح العرب قاطبة، فحفظها وحفظته، هذا التشريف هو ما أنزلها منزلة سامية لدى كل من ارتضى الإسلام دينا، ووصلت بطريقة أو بأخرى إلى باكستان وأفغانستان وماليزيا والهند... كما استقرت في مناطق أخرى في إفريقيا وأوروبا فأمريكا، وفي العصور الحديثة أتيح للغة العربية أن تحتك باللغات الأوربية، فتأثرت وأثرت بهذه اللغات عن طريق الترجمة والبعثات والمبادلات المختلفة. لقد وعى العرب والمسلمون أهمية لغتهم وارتباطها بالقرآن الكريم، فبادروا بدراستها، والحفاظ عليها- فما أن رأوا شيوع اللحن نتيجة لاختلاط الناطقين بها بغيرهم من العجم في البلدان المفتوحة، حتى سارعوا بضبط المصحف كما فعل الأسود الدؤلي، ووضع علم النحو، وتقعيد القواعد بطريقة الرواية والمشافهة عن الأعراب الخلص، فلم يقبلوا من فسد لسانه للأخذ عنه، لمجاورته العجم أو اتصاله بهم من القبائل، فالدافع الديني كان من الأسباب، إن لم يكن السبب الوحيد- التي حدت بالعرب إلى القيام بعملهم هذا- وإن الحرص على الفصحى، لغة القرآن الكريم، هو الذي جعل العرب والمسلمين يقفون صفا واحدا ينافحون عنها، ويبعدون عنها كل شائبة؛ ولذات السبب، رأينا اللغويين في عصور الازدهار الإسلامي يؤلفون المؤلفات، ويخطون الرسائل في خدمة اللغة العربية. فهاهو أبو منصور الثعالبي النيسابوري يقول في مقدمة كتابه "فقه اللغة وسر العربية" من أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا، صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، التي بها نزل أفضل الكتب، على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها وصرف همته إليها، ومن هداه الله الإسلام، وشرح صدره للإيمان وأتاه حس سريرة فيه، اعتقد أن محمدا، صلى الله عليه وسلم، خير الرسل – والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب، كالينبوع للماء، والزند للنار. أما ما درج الباحثون على تسميته بفصحى التراث، فالمقصود بها اللغة العربية التي احتفظت بخصائصها النطقية والتركيبية، بحيث لم يدخلها في مجملها، ما دخل العربية المعاصرة من ألفاظ وتراكيب، وأساليب حديثة، والملاحظ على فصحى التراث أن استعمالها أصبح الآن قاصرا على الموضوعات الدينية والتاريخية، فلا تقرأها إلا في كتب التراث القديمة، وفي الموضوعات الدينية، ولا تسمعها إلا من خطباء المساجد وعلماء الفقه، وذوي الثقافة التقليدية، وأما ما يسمى بفصحى العصر فتمثله وسائل الإعلام على اختلافها، وهي لغة التأليف العلمي والأدبي في معظم كتابات كتاب هذا العصر؛ وهي اللغة المسموعة من ألسنة المذيعين والصحفيين، وتمتاز هذه اللغة بتحررها مما في فصحى التراث! نعم لقد كانت اللغة العربية قوية أيام قوة أصحابها، ورهبت الأعداء من المساس بالمسلمين بأي أذى، أما عندما تفككت الوحدة من عضد الدولة الإسلامية، تآمرت الدول الحاقدة عليها، وبدأت تنهش جسدها المنهوك، حدث هذا زمن الحملات الصليبية، وكذلك ما عاشته الأقطار الإسلامية على يد الاستعمار الحديث لقد جثم هذا الاستعمار طويلا صدر المسلمين، وكان يهدف، من بين أهدافه الخبيثة، طمس اللسان العربي، وبذلك يحول بين المسلمين ودينهم المدون بهذا اللسان، برز هذا بصورة واضحة في أقطار المغرب العربي حيث سعى الاستعمار الفرنسي إلى فرض لغته وعمل جاهدا على إحياء اللهجات المحلية لتحل محل العربية الفصحى. وقد أوكل الاستعمار الإنجليزي لبعض أعوانه هذه المهمة في مصر؛ وأيا كانت وسائل هؤلاء، فقد كان الهدف الذي يسعون إليه واحدا، وهو سلخ المسلمين عن دينهم وتراثهم المُشرق. وللأسف فقد جاء من بعد هؤلاء المستعمرين بعض من يعدون أذيالا لهذا الاستعمار، واتخذ الهجوم على اللغة العربية الفصحى شكلا آخر تمثل في الدعوة إلى نبذ الحروف العربية واستبدال الحروف اللاتينية بها كما فعل كمال أتاتورك عندما ألغى الخلافة سنة 1924م. فالتطور الطبيعي للغات دليل على حيويتها ومرونتها، ولكن التطور لا يعني هذا التسيب في ضياع الهوية للغتنا، ولا جنوحا إلى التقليد الأعمى الأجنبي لا لشيء سوى الولع بتقليد الغالب. إن لغتنا التي وسعت ألفاظ حضارات كثيرة لقادرة على استيعاب كل جديد، وهي التي حملت الدين الإسلامي طيلة أربعة عشر قرنا، سوف تبقى قادرة على إعانة المسلمين على فهم دينهم وتبصرتهم به وتراثنا المشرق، وفي ذات الوقت، استيعاب الحضارة الحديثة بعلومها وآدابها. جريدة ميثاق الرابطة، العدد 912، الخميس 22 محرم 1421ه الموافق 27 أبريل 2000م السنة الثانية والثلاثون.