تناولت في العدد السابق من جريدة الميثاق بعض مناقب العلامة علال الفاسي، وأحببت في هذا العدد أن أعرج على علم آخر من أعلام الأمة وهو الشيخ الطاهر بن عاشور، وغاية القصد هو لفت نظر أبنائنا اليوم -الذين انبهروا بالشرق في غفلة عن النعم العلمية القريبة منهم- إلى ما جادت به ربوع الغرب الإسلامي من شموس في سماء العلوم منيرة، عيبها الوحيد أن مطلعها الغرب..!! فلا يذكر اسم الشيخ الطاهر بن عاشور إلا ونتذكر لقب "سفير الدعوة الإصلاحية في الجامعة الزيتونة" الذي لقبه به الإمام محمد عبده حين لقيه بتونس في زيارته الثانية سنة 1903م، وألقى أمامه خطبة جاء فيها: يا أيها الأستاذ، إن مباديكم السامية التي ترمي سهمها الأفلج شوا رد التقدم.. قد أوجبت لنفسي نحو لقياكم كثرة إشراق، مع علو في محبتكم وإغراق، فلا يتعجب الأستاذ أيده الله من نفس أظهرت له التعلق عند ملاقاته الأولى؛ فإننا إن لم نلق شخصه من قبل فقد لاقينا ذكره فرائد.. وهذا يعني أن الطاهر بن عاشور قد تأثر بالفكر الإصلاحي للإمام محمد عبده، مما جعله يشارك في دعوات الإصلاح، وينظر لمشاريع النهضة العربية الإسلامية وأطروحاتها، ويسعى إلى إصلاح المناهج السائدة على الساحة المعرفية، انطلاقا من إصلاح جامع الزيتونة الذي يعتبر القلب النابض في بلاد إفريقيا. وكان عطاؤه العلمي رحمه الله، كما وصفه بذلك الأستاذ الحبيب بن الخوجة، غزيرا ومتنوعا من تفسير للقرآن الكريم، ودراسة للحديث النبوي، ولأصول الفقه وللغة والأدب والنحو والاجتماع والتراجم والتاريخ حتى إنه يمكن القول إن الرجل تميز بحق عن سائر أقرانه في المغرب العربي. وقد اشتهر العلامة الطاهر بن عاشور بميله الشديد لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية نظرا للفراغ الحاصل في هذا العلم، لهذا كان يؤكد في أقواله على أن الأمة الإسلامية بحاجة إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشريعة وتملك من معرفة مقاصدها. ولهذا رجع رحمه الله إلى المقاصديين من علماء السلف فاستفاد منهم كثيرا، وخاصة شيخهم الإمام الشاطبي الذي قال في حقه بأنه أفاد جد الإفادة في علم المقاصد، ولهذا اقتفى أثره في هذا البحر المعرفي الزاخر. إلا أن الأستاذ طه جابر العلواني ذهب إلى أبعد من هذا "الاقتفاء" حين أشار إلى أن ابن عاشور استطاع أن يستدرك على الإمام الشاطبي ما فاته وأن يمهد لبناء الفكر المقاصدي بأحسن ما يكون التمهيد. والملاحظة المنهجية التي نختم بها هذه الكلمات المعدودات هي امتزاج هذا الإبداع المقاصدي عند شيخ تونس بالبحث في أسباب نهوض المجتمع الإسلامي وأسباب جموده، وكذا الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي في الإسلام ومقاصده. وهذا التكامل المعرفي العجيب أهدانا تلكم الثمرة العلمية الطيبة: "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، التي يمكن اعتبارها ثورة في علم الاجتماع الإسلامي المعاصر، والتي تستحق عناية خاصة من الباحثين في هذا الإطار لاستخراج المضامين والمفاهيم التي دونها في هذا الكتاب الفريد، الأمر الذي يتطلب إعادة قراءته مرة ومرة .. إن الشيخ الطاهر بن عاشور نجم زاهر في سماء العلم والمعرفة ببلاد المغرب، فحق بذلك أن يكون من مجددي أمر دين هذه الأمة في العصر الحالي.