في هذا الجزء نتناول أهم الأحكام التي تعرض للعمل بمفهوم المخالفة، ذلك أن إعمال أي نوع من أنواع الدلالة في تفسير النصوص الشرعية، من شأنه أن يطرح عدة قضايا ومسائل، منها ما يطرحه هذا المفهوم عند المالكية. 1- عموم مفهوم المخالفة هل يدل التقييد بمفهوم عموم مفهوم المخالفة على نفي سائر الأجناس أم يقتصر على نفي الجنس الذي علق الحكم عليه؟ وقد أشار إلى ذلك الشنقيطي في مراقيه: معلوفة الغنم أو ما يُعلف الْخُلْفُ في النفي لأي يصرف[1]. أي هل يقتضي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"[2]، نفي الزكاة عن معلوفة الغنم فقط، اقتصارا على نفس الجنس، أم يتعدى نفيها إلى كل معلوفة من إبل وبقر وماعز وغيرها، فيكون له عموم؟ ففي المسألة قولان: - القول الأول لجمهور الأصوليين الذين يعتدون بمفهوم المخالفة، فهم يعتبرون أن لمفهوم المخالفة عموما[3] ومستندهم في ذلك: "إنه إذا قيل لشخص في سائمة الغنم الزكاة (...) فقد تضمن ذلك قولا آخر وهو أنه لا زكاة في المعلوفة"[4]. ولم أجد من المالكية من يصرح بذلك. - القول الثاني للباجي (ت474ه) والقرافي (ت484ه): فأما الباجي فقد صرح بذلك في تعريفه لدليل الخطاب عند القائلين به[5]. وأما القرافي فقد ناقش القضية مستدلا عيها باللغة حيث قال: "قاعدة العرب أن نقيض المركب عندهم النقيض في ذلك المركب دون غيره"[6]. فإذا قلنا زيد في الدار فنقيضه أن زيدا ليس في الدار، هذا هو الذي يستعمل في اللغة، وكذلك إذا قلنا في الخبز من الحنطة غذاء، فالذي يقصد مناقضته يقول ليس في الخبز من الحنطة غذاء[7]. ويضيف أننا لو قلنا بالرأي المخالف (بأن له عموماً) في قوله: "فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"[8]، "فإن ما ليس بسائمة مطلقا يتناول البقر والمعلوفة والإبل بل العقار بل الحلي المتخذ لاستعمال مباح؛ لأن الحلي ليس بغنم سائمة"[9]، فيؤدي هذا إلى الإخلال بالمفهوم: "فيتعين التقييد، على المذهب الصحيح"[10]. ولأن هذا، في رأيي والله أعلم، ينسجم مع قولنا إنه النقيض وليس الضد، كما هو في مذهب المالكية، كما أنه أكثر ضبطا في العمل وأشد وضوحا. 2- التخصيص بمفهوم المخالفة مسألة تخصيص العموم بمفهوم المخالفة تدور رحاها في المذهب المالكي بين موقفين: الأول لا يجيزها، وقد نقله الباجي عن أكثر المالكية[11]، والثاني: يجيز ذلك[12]، ونقله التلمساني عن أكثر القائلين بالمفهوم[13]، وهو الراجح كما قال الشنقيطي[14]. والموقف الأول: حكاه القرافي أيضا في تنقيح الفصول وهو يتكلم عن مخصصات العام، فقال: "وفي المفهوم[15] نظر، وإن قلنا إنه حجة لكونه أضعف من المنطوق"[16]. ويبدو أن هذا الموقف يرجع في أصله إلى ما حكاه الزركشي (ت 794ه) في "البحر المحيط" عن الإمام مالك أنه قال: "إن دليل الخطاب لا يخصص العموم، بل يكون العموم مقدما"[17]. وحجته في ذلك أن: "العموم نطق، ودليل الخطاب مفهوم من النطق، فكان النطق أولى"[18]. وبسبب من ذلك "يترك دليل الخطاب إذا عارضه ما هو أقوى منه"[19]. وقد طبق الإمام مالك هذا المعنى، فلم يقل بتخصيص مفهوم المخالفة في قوله عليه الصلاة والسلام: "في سائمة الغنم زكاة"[20]، لعموم قوله أيضا: "فِي أَرْبَعِينِ شَاةٍ شَاةٌ"[21]؛ لأنه رأى أن العموم أقوى من أن يخصص بدليل الخطاب. أما الموقف الثاني فقد أجاب القائلون به عن دليل المانعين بأن مفهوم المخالفة "منطوق خاص لما هو من أفراد العام، فالمفهوم مقدم عليه؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما"[22]. وقالوا بتخصيص مفهوم قوله تعالى: "وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً اَن يَّنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُومِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتَ ايْمَانُكُم مِّنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُومِنَاتِ" [سورة النساء، الآية:25]، الذي يقتضي عدم جواز نكاح الأمة لمستطيع الطول، لعموم قوله أيضا: "فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ" [سورة النساء، الآية:3]. بيد أن الإمام مالكا يقول في هذه المسألة بالتخصيص، كما يشير إليه كلامه في الموطأ حيث يقول: ولا ينبغي لحر أن يتزوج أمة وهو يجد طولا لحرة، ولا يتزوج أمة إذا لم يجد طولا لحرة إلا أن يخشى العنت، وذلك أن الله تبارك وتعالى في كتابه: "وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً"، وقال: "ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ"، قال مالك: العنت هو الزنى[23]، وهذا تخصيص لعموم الآية، كما أنه تخصيص أيضا لعموم قوله تعالى: "وَأَحَلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ" [سورة النساء، جزء من الآية: 24]. ومنه أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"[24]، ومفهومه أن غير الطعام يجوز بيعه قبل أن يستوفى[25]. وقد قال به مالك في مقابل عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عنِْدَكَ"[26]. وهذا عام في الطعام وغيره. 3- نسخ مفهوم المخالفة اعتنى الأصوليون المالكية وغيرهم بنسخ مفهوم الموافقة، بيد أنه لم يتعرض لنسخ مفهوم المخالفة إلا القليل منهم مع العلم أنهم لم يفصلوا فيه أيضا، وتتناول مسألة النسخ أمرين: النسخ بمفهوم المخالفة ، ثم نسخه: فأما النسخ به فلا يجوز بالنظر إلى "ضعفه عن مقاومة النص، وللاختلاف في اعتباره أيضا"[27]، وإليه يشير الشنقيطي بقوله: ورأي الأكثرين الاستلزام وبالمخالفة لا يرام[28] أما نسخه فيعرض له نقط ثلاث: النسخ دون الأصل؛ والنسخ مع الأصل؛ ونسخ الأصل مع بقائه. أ- نسخه دون أصله والرأي الراجح هنا: "جواز ذلك ووقوعه" ويمثل له أغلب الأصوليين بما روي عن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم في جواز ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ"[29]، فمنطوق هذا الحديث أن من نزل منه الماء -المني- وجب عليه استعمال الماء أي غسل الجنابة، ومفهومه أن: "من جامع وحصل من جماعه التقاء الختانين ولم ينزل منه مني أنه لا غسل عليه"[30]. فنسخ هذا المفهوم بقوله عليه الصلاة والسلام: "إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَغَابَتِ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ"[31]. وبقي المنطوق الذي هو وجوب الغسل من الإنزال محكما غير منسوخ"[32]. ب- نسخ الدليل والأصل معا إذا جاز نسخ دليل الخطاب مع بقاء أصله (المنطوق)، فأحرى في الجواز أن ينسخا معا[33]، ومثال نسخهما معا أن ينسخ مثلا وجوب الزكاة في السائمة وفيه في المعلوفة عند القائل به[34]، وذلك لأن مفهوم المخالفة تابع لأصله، "فإذا سقط حكم الأصل سقط حكم الفرع"[35]. ج- نسخ المنطوق وبقاء المفهوم تعرض العلامة الشنقيطي لهذا الأمر معتبرا إياه بعيدا؛ لأن الدليل تابع للمنطوق يرتفع بارتفاعه لا العكس، ولذلك قال: "إن الظاهر منعه"[36]، لكن التلمساني يسعفنا بفرع فقهي يرد ما قاله الشنقيطي[37]، يتمثل في احتجاج المالكية على أن الوصية للأجانب غير فرض، اعتمادا على مفهوم قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاَقْرَبِينَ" [سورة البقرة، الآية: 180]، أي أنها لغير الوالدين والأقربين غير فرض، علما أن هذه الآية منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام: "لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"[38]. لكن المنسوخ هنا هو المنطوق، وبقي حكم المفهوم -أنها للأجانب غير فرض- ويكون بمقتضى هذا المثال أن كل نص شرعي له منطوق ومفهوم، لا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر سواء ببقائه أم بارتفاعه"[39]. -يتبع– ------------------------ 1. "نثر الورود"، (1/112). 2. أخرجه أحمد، (1/11 - 12)، أبو داوود، (2/221)، والبيهقي، (4/86). 3. "مناهج الأصوليين"، د.خليفة بابكر الحسين، ص: 278. 4. "أصول الفقه الإسلامي"، د. وهبة الزحيلي، (1/267). 5. "أصول الفقه الإسلامي"، د. وهبة الزحيلي، (1/267). 6. "نفائس الأصول في شرح المحصول"، (2/1433). 7. "شرح تنقيح الفصول"، ص: 273، و"الذخيرة"، (1/102). 8. أخرجه أحمد، (1/11 - 12)، أبو داوود، (2/221). والبيهقي، (4/86). 9. "شرح تنقيح الفصول"، ص 273. و"الذخيرة"، (1/102). 10. "نفائس الأصول"، (4/1988). 11. "نشر البنود"، (1/267). 12. وهذا يرد ما ذكره د.وهبة الزحيلي من أن المالكية لا يقولون بالتخصيص بناء على مسألة السائمة فقط، "أصول الفقه"، (1/260). 13. "مفتاح الوصول"، ص: 73. 14. "نشر البنود"، (1/257). 15. يقصد مفهوم الموافقة والمخالفة. 16. "تنقيح الفصول"، ص: 215. 17. "البحر المحيط"، (3/383). 18. نفسه. 19. "القبس شرح موطأ مالك بن أنس"، ابن العربي،(2/710). 20. أبو داوود، كتاب الزكاة باب زكاة السائمة، ابن ماجة في كتاب الزكاة، أيضا باب صدقة الغنم بنحوه. 21. أبو داوود، كتاب الزكاة باب زكاة السائمة، (ح 1068)، الترمذي، كتاب الزكاة باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، (ح 621). 22. "نشر البنود"، (1/257 - 258). 23. "الموطأ"، ص: 303 - 304. 24. "الموطأ"، كتاب البيوع باب العينة وما يشبهها، ح: 42، عن ابن عمر. 25. "الفروق"، (3/282). 26. "معجم الطبراني"، (3/231). 27. "نشر البنود"، (1/295). "مذكرة أصول الفقه"، ص: 52. 28. "مذكرة أصول الفقه"، ص: 52. 29. أبو داود: "كتاب الطهارة، باب الإكسال"، رقم: 215. 30. "شرح اللمع"، أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي، ص: 562. 31. مسلم، كتاب الحيض باب نسخ حديث "الماء من الماء" عن أبي موسى. والترمذي "كتاب الطهارة، باب إذا التقى الختانان وجب الغسل عن عائشة". 32. "مذكرة أصول الفقه"، ص: 52. و"تفصيل المسألة في الجامع القرطبي"، (5/143). 33. "نشر البنود"، (1/295). و"إرشاد الفحول"، ص: 289. 34. "نشر البنود"، (1/295). 35. "روضة الناظر وجُنة المُناظر"، ابن قدامة المقدسي، (620 ه) (1/233). 36. "نشر البنود"، (1/295). 37. علما أن الشنقيطي هو المتأخر. 38. الترمذي، (20/21). 39. "مفتاح الوصول"، ص: 92.