تمر أمتنا الإسلامية من فترة لأخرى بأزمات تعصف بعقل الحليم عصفا فتذره قاعا صفصفا لا يستطيع فكرا ولا يهتدي سبيلا..!! وإذا كان هذه هو حال الحليم فكيف بغيره من الناس الذين يبتغون الفتوى في شؤون أحوال الأمة عند المحللين والمفكرين والفضائيات والمدونين؟! إن تاريخنا حافل بأحداث جسام، إلا أن هذا لم يمنع أن تظهر بإزائها عقول ألمعية خبيرة تكشف الداء وتصف الدواء. وأذكر مثالا لهذا أورده ابن هشام في سيرته (ج 4، ص: 225) يتعلق الأمر بعبد الرحمان بن عوف ونصيحته كخبير لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في آخر حجة له، وذلك فيما يخص أمر سقيفه بني ساعدة، حين بلغه اختلاف الناس في أمر إمامة المسلمين، وأن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ما كانت إلا فتلة فتمت!!... فغضب عمر غضبا شديدا، وهمّ أن يقوم عشية ذلك اليوم من أيام حجه فيخطب في الناس ويحذرهم مما تتحدث به بعض الألسنة، لكن عبد الرحمان بن عوف أدرك عواقب ومخاطر ما ينوي عمر القيام به، فقال له: يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإن موسم الحج يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وأنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وإني أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير، ولا يعوها ولا يضعونها على موضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة، وتخلص بأهل الثقة وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا، فيعي أهل الفقه مقالتك، ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام بالمدينة. هكذا إذن كانت النصيحة، نصيحة رجل علم وفقه وسياسة، رجل حكيم وموضوعي وواقعي ومنهجي، يدرك مواطن الصحة والخلل في الأشياء.. وكأن الزمن لا يمكن أن يخلو من حكيم ينظر في النوازل نظرة فاحصة دقيقة.. ولهذا نفهم لماذا كتب إمام الحرمين الجويني كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" خاصة بعد توالي الحملات الصليبية على الأمة الإسلامية.. ونفهم كذلك لماذا كتب الإمام الشاطبي كتاب "الموافقات" وكتاب "الاعتصام".. وقد كتب ما كتب في ظروف تحمل مؤشرات نهاية الوجود الإسلامي في غرناطة.. بمعنى بأن هناك بعض التشابه بين عصر الجويني وعصر الشاطبي، وهو الذي مكن لظهور نظرية المقاصد، وجوهرها وماهيتها المدافعة بين المصلحة والمفسدة لحفظ الدين وما يتبعه من حفظ للبلاد والعباد.. ومن هنا نفهم أيضا أنه في سنة 1884م التقى محمد عبده بمجموعة من العلماء المصلحين، وحث بعض طلبته من أمثال عبد الله دراز ومحمد الخضري على الاعتناء بموافقات الشاطبي. ثم التقى سنة 1903م بالشيخ الطاهر بن عاشور فكانت الدعوة لاستئناف البحث المقاصدي الذي يتسق وفعالية الحركة الإصلاحية التي تدافع الحركة الإفسادية في شتى المجالات.. وكأن الاهتمام بمقاصد ومآلات الشريعة الإسلامية فيه إحياء للأمة وإنقاذ لمقدراتها المعنوية والمادية في كل مرة تشرف شمس شهودها الحضاري على الأفول من جهة، وفيه جواب عن الأسئلة المقلقة التي تحير الألباب من جهة أخرى.. هذا الجواب الذي ينطلق من مشكاة العلم ليتجاوز حدود المعرفة البسيطة؛ لأن العلم لا يكاد يقال إلا فيما تدرك ذاته، أما المعرفة فتقال فيما تدرك آثاره، كما عبر عن ذلك الراغب الأصفهاني في كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة".. وبمعنى آخر، إن ما تعرفه أمتنا اليوم من أحداث ومستجدات أحوج ما تكون في تحليلها ودراستها إلى نظر علمي دقيق وعميق منه إلى معرفة سطحية بسيطة. ولعمري ليس هناك أفضل ولا أحسن ولا أكمل من العلم وسيلة ومنهجا لتحقيق مكارم الشريعة وفهم مقاصدها بما يتحقق به حفظ البلاد والعباد.. وصدق الله العظيم القائل في سورة فاطر: "ولا ينبئك مثل خبير".