يندرج تحيز الفكر للذات المنتجة له فردية كانت أو جماعية، في إطار ما سبق لنا توضيحه من كون الفكر لا يمكن بحال عزله تماما عن مؤثراته الذاتية، شأنه في ذلك ككل أفعال القلب الأخرى؛ مثل الإيمان، والخشية والحب والبغض والصبر والإخلاص.. فهي أوصاف تجمع بينها الكلمات، وتفرق بينها القلوب التي تصبغها بصبغتها الخاصة، فيكون إيمان عمرو غير إيمان زيد وإن اتحدت بينهما الاعتقادات وتوافقت التسميات. فلا يجوز أن نقول بأن شخصين تتساوى أفكارهما، وإن صح أن نتحدث عن تقاربها وتشابهها، بل لو أن كاتبا دبج مقالا على جهاز حاسوبه ولم يقم بإجراء التحفيظ، فضاع ما جاد به فكره طيلة ساعتين، هل يستطيع هذا الكاتب أن يعيد كتابة نفس المقال بنفس الأفكار السابقة وبنفس الأسلوب؟ بالطبع لن يستطيع ذلك ولو كان من أصحاب الذاكرة القوية، ولماذا؟ لأن الحالة النفسية التي رافقت عملية تفكيره في المرة الأولى، لا يمكن بحال استعادتها ! فقد مضت مع زمانها الذي لا يرتد إلى الوراء أبدا. ولذلك فإن طريقة استعادة نفس الأفكار، لا تتأتى إلا بتقييدها كتابة وقراءتها لاحقا. فالمؤلفون والكتاب كلما برقت في أذهانهم فكرة جديدة، بادروا إلى تسجيلها على الورق، قبل أن تختفي ولا تعود إلا في قالب مخالف. بل كثيرا ما يدون مفكر أفكاره في لحظة من اللحظات، التي تتميز بحالة نفسية فريدة وظروف محيطة خاصة، ثم بعد مرور أيام يعود ليقرأ أفكاره فإذا هي كأنها ليست أفكاره، وكأن يده ليست هي من خطها، فيميل عليها تعديلا وتنقيحا وحذفا واستدراكا، وقد يتأسف لكتابته كتابا ويعلن على الملإ تبرؤه مما جاء فيه. وللظروف المادية التي هيمنت ظلالها على الفكر وهو يتبلور في سياقها الخاص،أثر لا يمكن إنكاره، وما أكثر ما نعاين في الواقع سيرة أشخاص الفكرية وهي تتغير بوتيرة سريعة وعلى إيقاع ما صارت نفسه تتقلب فيه من المناصب والمكاسب والأوضاع، وفي القرآن الكريم تأكيد لهذه الحقيقة: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ َصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ اَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" [سورة الحج، الآية:11]. فهذه الآية "نزلت في قوم من الأعراب، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال: هذا دين حسن ، وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتدّ عن الإسلام"[1]، ولقد دعا القرآن المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمارسوا فعل التفكير في أمره بتغيير كيفيته وإطاره المكاني والزماني: "قُلْ اِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ اَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ". [سورة سبأ، الآية:46] فهؤلاء عندما ينخرطون في تيار القيل والقال والإشاعات الطاغية، يتأثر فكرهم بهذا الوضع المجتمعي السائد، وحين يخلوا واحد منهم مع ثان ويعزمان على تبين الحقيقة، أو يخلو الواحد إلى ذاته في تجرد وصدق؛ فإن الموقف آنئذ سيتغير ويتضح الصواب، ويزول عنه ضغط التقليد والإمعية، - نسبة إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم- "لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا ولكن وطئوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا"[2]. ومن المعلوم أن مذاهب بشرية معروفة، اعتبرت كل فكر إنما ينتج عن الظروف التي تبلور في أجوائها، وأنها هي من ألهم العقل التفكير على نحو ما ينسجم معها، دون أن يتمكن من تجاوز إملاءاتها، أو يستطيع التصرف فيها بما يحقق استقلال نظرته ومواقفه عن الإذعان الكامل لها، ولقد عبر الشاعر العربي قديما عن تقيده بمواقف وأفكار قبيلته فقال: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت = وإن ترشد غزية أرشد. وهذا كارل ماركس (Karl Marx (1818_1831 في العصر الحديث، يزعم في ماديته بكتابه رأس المال بأن حركة الفكر ليست إلا انعكاسا لحركة المادة منقولة إلى دماغ الإنسان ومتحولة فيه. وظهر الكلام عن تاريخية الفكر، والتي يقصد بها ارتباط كل فكر بالظروف التاريخية المحتضنة له، بل والمولدة له، مما يدل على اعتراف بما للواقع المادي المحيط بالفكر من تدخل في تشكيله بنسبة معينة، لا تلغي أبدا مسؤولية الإنسان عن فكره، الذي يوجهه في دروب الحياة. فهذه الوقائع والاتجاهات كلها دليل قاطع على ارتباط الفكر بلحظته، على مستوى الذات والموضوع على السواء. فطبيعي إذن أن ينحاز الفكر لواقع الذات المنتجة له وأن يصطبغ إلى حد ما بمؤثرات البيئة المحيطة. إن ذاتية الفكر ليست مذمومة دائما، فهي ما يثبت نسبة الفعل التفكيري لصاحبه، والذي يرى فيه اختياره وإبداعه وتميزه ومسؤوليته الكاملة عنه، فليست الأفكار مسارات معلومة، وقناعات جاهزة، يفقد الإنسان أمامها حريته في إنتاج فكر يصح وصفه بالفردي ونسبته إلى شخص صانعه، وإنما هو تعبير عقلي عن خصوصيات الذات المفكرة، التي تتبناه بقوة وتعتز بملكيتها له وانفرادها بإنتاجه، وعدم لجوئها لفكر غيرها واجتراره، بل وسبقها إلى فكرة جديدة لم يتوصل أحد إليها من قبل. وإذا لم يكن بد أمام الفكر من قدر معين من التحيزات الواعية واللاواعية، للذات والمجتمع واللحظة الراهنة وبراديغماتها Paradigms فكيف نحقق نزاهة الفكر ونطمئن إلى كون أحكامه قد التزمت الحق ولو نسبيا وفي حدود مقبولة، ولم تمل مع الهوى أو تتأثر بظروف إنتاجه إلى درجة الزيغ والشطط المرفوضين؟ ذلك ما سنعمل على مقاربته في الحلقة الموالية بحول الله والحمد لله رب العالمين. --------------------------- 1. التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي. 2. الترمذي وحسنه، والجامع الكبير للسيوطي، إمعة: أي لا رأى له ولا عزم.