وثانيهما: النظر في آيات الكتاب وبلاغات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على حكمته سبحانه وأنه تعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.. وثالثها: السير في الأرض والنظر في مستأنفات الأحوال حيث يبرز هذا المعنى الذي أشار إليه الشيخ رحمه الله ويتجلى، فكم من عطاء اتضح أنه منع، وكم من منع اتضح أنه عطاء. والقرءان المجيد حافل بالدلالة على هذه المعاني فسورة يوسف عليه السلام أظهرت أن منع سيدنا يوسف من البقاء بجوار والده كان عين العطاء له، كما أن سورة القصص حفلت بهذه المعاني حيث تصدرها ذكر عطاء هو في باطنه منع، وذكر منع هو في باطنه عطاء، فقال تعالى: "طسم. تلك آيات الكتاب المبين. نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يومنون. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الاَرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" [سورة القصص، الآيتان: 1-5]، فانظر كيف كان العطاء لفرعون منعا من رحمة الله، وكيف كان منع بني إسرائيل عين العطاء. وفي قوله تعالى: "وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه. فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني" فكان منعها المؤقت من ممارسة أمومتها عين العطاء لها ولرضيعها سيدنا موسى عليه السلام الذي بعد أن كبر منع ظاهريا نعمة الأمن والعزّة والتمكين حيث يقول تعالى: "فخرج منها خائفا يترقب قال ربّ نجني من القوم الظالمين"، مما هو في ظاهره منع بيد أنه عين العطاء حيث كان ذلك مهيع النبوة الناهج، وكان باب اصطناع الله تعالى سيدنا موسى لنفسه "واصطنعتك لنفسي" [سورة طه، الآية: 41]، وفي نهاية سورة القصص جاء ذكر قارون وكيف أن إعطاءه كان عين منعه، وحين فتح على الذين كانوا يتمنون مكانه بالأمس باب الفهم، أدركوا أن منعهم كان عين العطاء فقالوا "لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون" [الآية: 82]. كما حفلت سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المعاني ومن أبرز المواطن دلالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ" قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ: "لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" [صحيح البخاري، كِتَاب الْأَدَبِ، باب رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ، حديث رقم:5569]، فرب طفل يرغب في أكل ما يضره فتمنعه أمه رحمة، فيكون ذلك المنع عين العطاء ولله المثل الأعلى. كما أن سيرته المطهرة عليه الصلاة والسلام مثال جلي على ذلك حيث إن يُتْمه صلى الله عليه وسلم وهو في ظاهره منع كان عطاء، وإخراجه من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة وهو في ظاهره منع كان عطاء، وغير ذلك من المواطن التي حفلت بها سيرته المطهرة. والسير في الأرض والنظر في تجارب الخلق يوقف على أمثلة بهذا الصدد تتأبى على الحصر.. وتظافر الإيمان بعلم الله، ورحمته ورحمانيته، وودّه ولطفه، وعدله وإحسانه، وقدرته ورأفته، وعطائه، وأنه سبحانه بعباده حفيّ، مع استدامته النظر في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفع ذلك بالسير في الأرض والنظر في تجارب الخلق لا شك يولّد الإيمان بحكمة الله تعالى ويوقف على هذا المعنى الجليل الذي أشار إليه الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه من أنه إذا فتح للعبد باب الفهم في المنع صار المنع عين العطاء. والله المستعان الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء