يمكن تقسيم مجال الفكر إلى قسمين متميزين أحدهما ما لا يخضع للتجريب أو التمحيص، وثانيهما ما تحكم التجربة بصوابه أو خطئه. ولنبدأ الكلام عن القسم الأول، الذي يشمل المعتقدات الغيبية بشكل أساسي، وما يطلق فيه العنان للخيال والأذواق والمشاعر والظنون والأهواء من الإبداعات الفلسفية والأدبية والفنية والتاريخ والسياسة والاجتماع، وكل ما يستعصي على التجربة العلمية وما يدور في فلكه من دراسات وأبحاث، وما ينسج في إطاره من نظريات ورؤى وتصورات، بحيث يتسع مجال الحرية أمام النفس في إثبات ما يساير مبادئها واختياراتها في رحاب الحياة، ونفي ما يتعارض معها، ويكون مستندها في كل ذلك إرادتها الطليقة التي تقبل بها وترفض دون أن تستطيع هذه المعارف أن تمارس عليها سلطانا حاسما يحول بين النفس والانحياز لتوجهها الثابت أو الطارئ من فهوم وإدراكات وأفكار تعد شخصية بامتياز. وهذا ما ينسجم وطبيعة الفكر الذي لا ينفك يترجم مقاما نفسيا راسخا أو حالا طارئا وليد لحظته أو مزيجا من ذا وذاك. وفي هذا الصدد يقول الدكتور جميل صليبا ملخصا تعاريف الفلاسفة للفكر: "وجملة القول أن الفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يطلق على المعقولات نفسها، فإذا أطلق على فعل النفس دل على حركتها الذاتية وهي النظر والتأمل، وإذا أطلق على المعقولات دل على الموضوع الذي تفكر فيه النفس [1] ". والإنسان في هذا القسم غالبا ما لا يعي مدى تدخل نفسه في فهم واستيعاب ما تفكر به في هذا الموضوع أو ذاك، فيعتبره حقائق كامنة في المضامين المعرفية أو الأحداث والوقائع خارج ذاته، فرضت نفسها عليه وهو لا يملك تجاهها إلا التسليم بها والإذعان إليها، مما يجعله يمتعض ممن يرى خلاف رأيه، ويتهمه بالإعراض والجحود دون دليل. ولو كان مضمون علمي ينتمي لهذا الصنف من المعارف قادرا على إلزام الفكر بإتباع نهج محدد، لكان القرآن الكريم الذي هو كلام الله العليم الحكيم يمارس سلطانا مطلقا على المتلقين دون تضارب بين من يراه حقا مبينا ومن يراه كذبا وافتراء وخرافة. ولو شاء الله تعالى لجعل كلامه ملزما للنفس فكرا ووجدانا بالإيمان والتصديق وإتباع هدي الرسل عليهم السلام، "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" [سورة المائدة، الآية:48]. لكن الله تعالى لم يخضع الإنسان لسلطان الحق حتى لا يفقده ذلك حريته ومسؤوليته، التي هي أخص خصوصيته، بل أخضع الحق لإرادة الإنسان وتفكيره، بحيث تكون حظوظ تقبله مساوية تماما لحظوظ رفضه، وبذلك يكون مسؤولا حرا بكل ما تعنيه الكلمتان عن تصديقه بالدين أو تكذيبه، ويظل خطاب الوحي مادة أساسية لابتلاء النفس بما يكشف عن مرادها العميق واختيارها الحر، الذي يتجه صوب الموافقة أو المخالفة. "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى" [سورة فصلت، الآية:44]. فخطاب الشرع يؤثر في كل نفس بحسب استعدادها ورغبتها فيكون هدى وشفاء من الحيرة والشك في قلوب المؤمنين ووقرا يعوق السماع وعماية تمنع إبصار ما فيه من حق ورشاد. وما أكثر ما تقررت هذه الحقيقة عبر المتن القرآني، معلمة الإنسان بأن الله سخر له كل ما في هذا الكون وسخر له الرسالات السماوية والمرسلين، حتى يفكر فيما يعرض عليه بعيدا عن أي ضغط أو إكراه سواء كان من الله جل جلاله أومن شرائعه أو أنبيائه، أو حتى تفكيره ذاته، الذي بينا في حلقة سابقة أنه يخضع لمراد النفس ويدور معه حيث دار." لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" [سورة البقرة، الآية:256]. ولقد أكد القرآن علاقة الفكر بالنفس في آيات عديدة منها: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة غافر، الآية:56]. فعن طريق الجدال تتميز الأفكار ويتضح توجهها كما تنكشف خلفيتها النفسية التي محلها القلب، والذي هو مركز النفس والمعبر عنه في الآية بالصدر حيث يوجد أيضا القلب الجسدي. فتفكير هؤلاء تعبأ لخدمة ما انطوت عليه نفوسهم من رفض الحق وتبييت معارضته، مما جعل جدالهم عاريا في حقيقة الأمر عن سلطان الدليل والبرهان، لكنه في اعتبارهم كان كفيلا برفض آيات الله وعدم التجاوب معها وتوهم بلوغ تكذيبها، فرد عليهم القرآن بغلط تفكيرهم وخيبة سعيهم. كما أن نيل الهداية وإدراك الحق، إنما هو استحقاق النفوس السوية الجادة في طلب الصواب، والتي تسخر جميع وظائفها الفكرية والعاطفية والفطرية في ابتغاء الله والدار الآخرة، أما النفوس التي تقابل الوحي والحق عموما، بفكر منغلق على مسلمات وتصورات واهية، رافض لتغيير شيء منها أو التخلي عنها إذا استبان بطلانها، فهذه النفوس لا ترى فيما يخالف ما ترسخ لديها إلا باطلا وزيفا، "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ" [سورة الحجر، الآيتان:9-13]. فمما تجدر ملاحظته في هذه الآيات أن الذكر وهو مضمون علمي إنما يسلك في قلوب المجرمين وليس في عقولهم وقد انعكست حقائقه تماما، تأكيدا لتوجه القلب في حسم أي قضية فكرية ذات الصلة بمعتقد الإنسان ووجهته في الحياة، وأن ذلك سنة جارية لا تتخلف على امتداد الوجود البشري. ولقد كشفت الدراسات النفسية الحديثة اتساع العلاقة بين الحالة التي تكون عليها النفس وتصرفات الذات المختلفة الروحية منها أو البدنية، وكان من الذين بسطوا هذا القانون وبسطوه بأمثلة واضحة الدكتور وليم جيمسWilliam James Dr بقوله: "غالبا ما يكون اعتقادنا السابق في غير المبرهن عليه من القضايا هو السبب الوحيد الذي يجعل تلك القضايا قضايا صادقة، فافترض مثلا أنك كنت صاعدا جبلا، وأجهدت نفسك حتى وصلت إلى مركز لا يمكنك أن تنجو منه إلا بقفزة عنيفة، فكيف الخلاص؟ اعتقد أن في مقدورك أن تقفزها وستجد في قدميك قوة فعلية على تنفيذها. ولكن إذا نزعت ثقتك من نفسك... فإنك سوف تتردد طويلا حتى تهن أعصابك وتضطرب وأخيرا وفي ساعة من ساعات اليأس تقذف بنفسك فتسقط في الهوة [2]" . فتوجه النفس الذي تشكله العقيدة يتحكم في طاقات الذات الفكرية والعضلية ويؤثر في عملها تأثيرا بينا لا ينكر. وما أن تتهيأ الظروف أمام الفكر، ليعبر عن دواخل النفس وكوامنها وتطلعاتها وانشغالاتها حتى ينطلق، مدفوعا بها ومنتهيا إلى مقتضياتها في كل ميادين الحياة التي يخوض في لججها. نخلص مما تقدم إلى إقرار نتيجة مفادها أنه لا صلاح للفكر إلا بصلاح النفس واستقامتها، وهذا ما يتطلب جولة فكرية أخرى، تزداد بها هذه العلاقة وضوحا وبيانا، نسأل الله استقامة في النفس وسدادا في الفكر آمين. فخطاب الشرع يؤثر في كل نفس بحسب استعدادها ورغبتها، فيكون هدى وشفاء من الحيرة والشك في قلوب المؤمنين. ووقرا يعوق السماع وعماية تمنع إبصارما فيه من حق ورشاد ، في نفوس الجاحدين به، المصرين على تكذيبه. ---------- 1. المعجم الفلسفي. 2.نقلا عن محمد بيصار، العقيدة والأخلاق وأثرها في حياة الفرد والجماعة، مكتبة الأنكلو المصرية، 1968، ص 135.