قال الله تقدست أسماؤه: "فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن اناء اليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى، ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا، لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى، وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى" [طه: 128-131]. ليس في عمل الإنسان ما هو أهم، ولا أكمل، ولا أقوم، ولا أعود بالخير على نفسه وعلى الناس من الصلاة... والله تعالى يقول: "من كان يريد العزّة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" [فاطر: 10]؛ فالكلم الطيب هو التوحيد، والعمل الصالح هو العمل النافع للنفس وللمجتمع وللعالم، وفي مقدمته الصلاة؛ لأن الأعمال الصالحة الأخرى تتبعها وهي إنما تصلح بصلاح الصلاة. روى إمامنا مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب لما ولي خلافة المسلمين، كتب إلى عماله في الآفاق: "إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظ في الإسلام لأحد ترك الصلاة." ولذا كانت الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وأم العبادات، وسيدة القربات، وغرة الطاعات، وأساس الخيرات، وعرس الموحدين، والصلاة فريضة ليس في الدين ما هو آكد منها، فإذا كانت الشهادتان أول ما تنطق به الألسنة، وتعتقده الأفئدة، فإن الصلاة هي أول العمل... وهي عمل بمقتضى علم ومعرفة، وهذا ما يجعلها عنصرا شديد الأثر في توحيد البنية البشرية، وتحقيق الرضا الذي هو ثمرة الصلاة "لعلك ترضى." لاحظوا هذه العلاقة بين الأمر بالصلاة وبلوغ مقام الرضا، ذلكم لأن الصلاة عندما تتسامى إلى القمة، وتقام على الوجه الأكمل، وتحفظ بحدودها الظاهرة والباطنة، تثمر الرضا يعني طمأنينة النفس لما تجد من برد الراحة بسكون الخواطر الجائشة والمتلفتة في الداخل؛ ولكن أي صلاة هذه؟ إنها الصلاة التي تكون فيها لربك كما هو لك "هو معك دائما، فهل أنت معه دائما؟ فإن لم تكن كذلك، فصل فإنك لم تصل... قال ابن عطاء الله: "إقامة الصلاة حفظ حدودها ظاهرا وباطنا مع حفظ السر مع الله -عز وجل- لا يختلج بسرك سواه." ولذا كان حبيب الله -صلى الله عليه وسلم- أكمل من عرف قيمة الصلاة... وأجل من عرف كيف يقيم الصلاة... كان يصلي من الليل حتى تتورم قدماه، ومعنى ذلك الحرص الشديد على موضوع الصلاة، وقد فقد هذا المعنى، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فتهون بالصلاة في نفسه جميع هموم الدنيا ومشكلاتها؛ لأنه يواجه بالصلاة الحبيب العظيم، والبرّ الرحيم، وهذا المعنى فقدناه كذلك في صلتنا الروحية الإيمانية بالله. ولقد قال ذات يوم: "حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة، تأمل معي قوله: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" يعني: طمأنينة نفسي، وسكينة نفسي، فكأن نفسه تتكدر، وقلبه ينقبض، فيضطر إلى الصلاة اضطرارا، فإذا قام إليها اكتحلت عينه وبصيرته برؤية الحبيب الأعظم؛ فصفت نفسه، وسكن خاطره، وقرت عينه راضيا بالله تعالى. لنتعلم -أيها الإخوة – كيف نقتدي بنبينا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب؛ لأن الصلاة إنما هي برنامج نستطيع بممارسته والارتياض عليه النظر إلى داخلنا وأعماقنا حتى نلتقي بأنفسنا، ونعرفها، ونحقق السلام معها. فنحن من فرط ما تحتوشنا دواعي الغفلة والشهوات قوم نيام –كما في الخبر- الناس نيام فإذا ما ماتوا استيقظوا – فهناك وسيلة أخرى للوعي والانتباه واليقظة غير وسيلة الموت، وهي وسيلة الصلاة الواعية الراشدة الداعية إلى تأمل حقائق الأشياء، ثم الغيبة عن شهودها برؤية من نصلي له، ونقوم بين يديه، ولذلك قال جل وعلا: "ولا تمدّنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا، لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى" [طه: 129-130]. تعلموا كيف ترتقون بصلاتكم إلى هذا الرزق الخالد، والانتفاع به، والاستفادة منه في دروب الحياة المختلفة. إننا أحوج الناس اليوم للتواصي بالصلاة، والتذكير بإقامتها وحفظها؛ لأن السطحية التي تناولت كل أمر جدي في حياتنا تناولت موضوع الصلاة أيضا، وأصبح مفهومها وأداؤها يقتصر على قشرة لا تغني أي غناء، ولأن الإنسان بداعي الطبع معرض فيها لنوع من الملل والسأم نتيجة المداومة على نمط واحد من الحركات والأفعال فتسأمها النفس وتستثقلها، فإن كان الملل واقعا في الصلاة لم يكن الآتي بها مقيما لها لوقوع التقصير منه فيها، ولم يؤمر إلا بإقامة الصلاة لا بوجود صورة الصلاة، ولذلك كل موضع في القرآن ذكر فيه المصلون على سبيل المدح، فإنه إنما جاء لمن أقام الصلاة كما قال سبحانه: "الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاة" [البقرة: 2]. وقال: أقم الصلاة، وقال رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي وقال: والمقيمي الصلاة، ولما ذكر المصلين بالغفلة قال: "فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون" [الماعون: 4-5]، ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة، وإقامة الصلاة هي حفظ حدودها ظاهرا وباطنا كما قال تاج الدين: "ليكون همك إقامة الصلاة لا وجود الصلاة، فما كل مصل مقيم." أجل، ما كل مستقبل القبلة مصل، وما كل مصل مقيم، ولا كل عامل مستقيم، فإن الصلاة الصحيحة المعتبرة إنما هي صلاة الخاشعين لا صلاة الغافلين التي لا تنهض لبلوغ تلك المقاصد السنية، ولذلك روي في بعض الآثار "أن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبينه، وواجهه بوجهه، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى السماء يصلون بصلاته ويؤمنون على دعائه، وإن المصلي لينشر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه، ويناديه منادي: "لو يعلم المناجي من يناجي ما انفتل، وإن أبواب السماء تفتح للمصلي، وإن الله تعالى يباهي ملائكته بصفوف المصلين." وقال محمد بن علي الترمذي: "دعا الله تعالى الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم، وهيأ لهم فيها ألوان الضيافات لينال العبد من كل فعل وقول شيئا من عطاياه، فالأفعال كالأطعمة، والأقوال كالأشربة، وهي عرس الموحدين هيأها رب العالمين لأهل رحمته في كل يوم خمس مرات حتى لا يبقى عليهم دنس الأغيار." وللحديث في هذا الموضوع الجليل بقية، وإلى لقاء قريب، والسلام..