موازين البحث العقلي في السنة وفي إطار التربية العقلية نجد السنة النبوية المطهرة قد وضعت لنا عدة موازين ومعايير وشروط ينبغي مراعاتها في البحث العلمي العقلي، حتى يتم اكتساب العلوم والمعارف وتنميتها ونشرها على الأساس السليم المفيد للإنسان في دينه ودنياه، ومن أهم تلك الموازين والضوابط نذكر: أولا: التجرد من الأهواء والميول الشخصية: إن أول خطوات السير في البحث العقلي السليم هو التجرد من الأهواء والميول الشخصية، والتعصب الذميم لمذهب أو اتجاه معين، والانسياق وراء الظنون والأوهام، حتى لا تنحرف بصاحبها عن المنهج العلمي الدقيق والنظرة الموضوعية للأمور. عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"[1]، وعن فضالة بن عبيد انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المجاهد من جاهد[2] نفسه"[3]. وقد كان الرسول عليه الصلاة وأزكى السلام، المثل الأعلى في التجرد من الأهواء وعدم التعصب للآراء، وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الآراء الوجيهة والأفكار الصائبة، بل كان ينزل عن رأيه إذا تبين له تحقق الفائدة والمصلحة في غيره على نحو أفضل، كما حصل في موقعة بدر الكبرى، وقبوله برأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه، في اختيار منزل لجيش المسلمين وعدوله عن رأيه، وكما حصل في قبوله لآراء[4] عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وغيره من لصحابة في أكثر من مجال هام يتعلق بالتشريع أو بالأمور الدنيوية[5]. ثانيا: التبين والتثبت والتروي في معرفة الحقائق العلمية وفهم أسبابها، واستخراج قوانينها بشتى الوسائل من ملاحظة ومشاهدة وتجربة قبل تقرير نتائجها وإعلان أحكامها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق"[6]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أردت أمرا فعليك بالتؤدة حتى يريك الله منه المخرج"[7]. ثالثا: عدم الاقتصار على فهم ظواهر الأشياء وأعراضها، بل العناية التامة بفهم جواهرها وحقائقها، حتى يحقق البحث العقلي والعملي أهدافه الصحيحة. عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"[8]. رابعا: الواضع في العلم وعدم التعالي والغرور وتزكية النفس، وادعاء الإحاطة الشاملة بالعلوم والمعارف، إذ فوق كل ذي علم عليم، وعلم الإنسان مهما بلغ؛ فإنه قليل ومحدود بالنسبة لعلم خالقه تعالى، عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نصر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"[9]. خامسا: ربط البحث العقلي بالوسائل التجريبية من ملاحظة ومشاهدة وتجربة، وربط التفكير والتأمل والنظر بالحواس المختلفة في الدراسات العلمية والتطبيقية، التي تستهدف فهم ظواهر الكون وأسبابها ومسبباتها وقوانينها، وذلك بغية تطوير الحياة البشرية ورفع مستواها وصنع تقدمها وازدهارها، "فالعلم العقلي والعلم التجريبي في نظر السنة النبوية مرتبطان ومتكاملان ومسخران لخدمات الإنسان وبناء حياته الصالحة وعمارة الكون الذي يعيش فيه"[10]. قال الله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والاَبصار والاَفئدة لعلكم تشكرون" [النحل، 78]. يتبع في العدد المقبل… —————— 1. الترمذي، الصحيح، الجزء الثامن، ص: 155-156، "وقال عنه حديث حسن صحيح". 2. جاهد: ومن مجاهدة النفس التحكم في أهوائها وضبط ميولها، وعدم الانسياق وراء تعصبها الفكري لبعض الاتجاهات والمذاهب والعادات، عبد الحميد الصيد الزنتاني: أسس التربية الإسلامية: ص: 531. 3. الترمذي: الصحيح. ج. 7، ص: 123 "وقال عنه حديث حسن صحيح". 4. ومن ذلك قبوله صلى لله عليه وسلم لاجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في حجب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، الذي صدقه الله عز وجل في وحيه المنزل، وكذلك قبوله عليه السلام رأي عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في استثناء الإدخر من التحريم، عندما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم عضد شجر مكةالمكرمة، وذلك لحاجة الناس إلى الإدخر في بنائهم وقبورهم ووقودهم. 5. في بحث تحت عنوان "أفعال الرسول في الأمور الدنيوية" لمحمد سليمان الأشقر، شرح المقصود بالأمور الدنيوية: كل ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال، له أو لغيره، أو دفع ضرر كذلك، أو ما دبره في شان نفسه خاصة، أو شؤون المسلمين عامة، بغرض التوصل إلى جلب نفع أو دفع ضرر في مجالات مثل: الطب، الزراعة، الصناعة، التجارة، العمل للغير، تدابير الحرب، والتدابير المدنية في السلم "مجلة المسلم المعاصر، السنة 10، العدد 40 ذو القعدة–ذو الحجة 1404، سبتمبر أكتوبر 1984، ص: 90. 6. صحيح الإمام البخاري، ج: 8، ص. 125. 7. المتقي: منتخب كنز العمال، ج: 1، ص: 154، "رواه البخاري والبيهقي في "شعب الإيمان". 8. مسلم : الصحيح، ج: 8، ص: 36. 9. أبو داود، السنن، ج: 3، ص: 301. 10. د. عبد الحميد الصيد الزنتاني، أسس التربية الإسلامية، ص: 534.