1- ورود الاستثناء بعد جمل متعاطفة إذا جاء الاستثناء بعد جمل مقرونة بواو العطف، هل ينصرف أثره إلى سائر الجمل الواردة قبله أو ينصرف إلى أقرب جملة مذكورة؟ تعتبر هذه القضية من جملة ما لفتت انتباه الأصوليين وهم بصدد التنظير لظاهرة الاستثناء والتأصيل لقواعده وضوابطه باعتباره آلية من آليات البيان والتنسيق، وهكذا تباينت أنظار العلماء في هذه المسألة بحيث يمكن حصر ثلاثة أقوال فيها[1]: أن الاستثناء راجع إلى جميع الجمل حتى يدل الدليل على خلاف ذلك، وهذا قول المالكية والشافعية وأكثر الحنابلة؛ أن الاستثناء عائد إلى أقرب جملة إليه فقط حتى يدل الدليل على خلاف ذلك، وهي مقالة أبي حنيفة والمتأخرين من أصحابه؛ أن المسألة يتعين التوقف فيها، "وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني والشريف المرتضى لوروده مستعملا في الأساليب العربية على كلا الوجهين، غير أن القاضي توقف لعدم تمييزه في الاستعمالين بين ما هو مستعمل في الحقيقة، وما هو مستعمل في المجاز، والشريف المرتضى توقف لدلالة الاستثناء الوارد بعد عدة جمل على الاشتراك عنده؛ لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة"[2]. وزاد القرافي قولا رابعا[3] حاصلة: "إن تنوعت الجملتان بأن تكون إحداهما خبرا والأخرى أمرا، عاد –أي الاستثناء– إلى الأخير فقط، وإن لم تتنوع الجملتان ولا كان حكم أحدهما في الأخرى ولا أضمر اسم إحداهما في الأخرى، فكذلك أيضا وإلا عاد إلى الكل"[4]. والدليل الإجمالي على صحة القول الأول[5] هو "أن الاستثناء رفع لحكم كلام متقدم قد نيط بعضه ببعض حتى صار كالكلمة الواحدة، فوجب أن يكون راجعا إلى جميعه، إذ ليس بعضه بالرجوع إليه أولى من بعض"[6]. وينضاف إلى هذا الدليل الأصلي أمور أهمها: أن الاستثناء كالشرط في عدم الاستقلال، فيتعين أن يكون مثله في الرجوع لسائر الجمل المتعاطفة قبله[7]؛ أن حرف العطف يوجب نوعا من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه، بحيث يكونان كالجملة الواحدة، فيقتضي ذلك أن يعود الاستثناء عليهما كالجملة الواحدة[8]؛ أن في ذكر الاستثناء عقب كل جملة من الجمل المتعاطفة إخلالا بشروط الخطاب إذا كان المتكلم يريد الاستثناء من الجميع… أما القول الثاني فخلاصة ما ينبني عليه من الأدلة يتمثل في أمور حاصلها: أنالاستثناءكلامغيرمستقل،وفائدتهتتوقفعلىردهإلىماقبله؛ ضرورة، ومعلوم أن حصول الفائدة كاف في الرد إلى أقرب الجمل؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، فتحصل أن الاستثناء لا ينصرف إلا إلى الجملة المتصلة به دون سواها من الجمل المعطوفة[9]. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى… ————————— 1. انظر إحكام الفصول للباجي، ص: 188-189 وشرح تنقيح الفصول للقرافي، ص: 249، ومفتاح الوصول للتلمساني، ص: 532-533. والمحصول لابن العربي، ص: 84-85. 2. العام وتخصيصه في الاصطلاح الأصولي، إدريس حمادي، ص: 147 3. لم يعز القرافي هذا القول إلى أحد. 4. شرح تنقيح الفصول، ص: 249. 5. سنكتفى بسوق أدلة القول الأول والثاني لكونهما الأقوى والأهم ولتجنب التطويل. 6. المقدمة في الأصول، ابن القصار، ص: 130. 7. شرح تنقيح الفصول، ص:250. 8. انظر إحكام الفصول، ص: 189 وشرح تنقيح الفصول، ص: 250. 9. نفسه، ص: 250، وانظر كذلك مذكرة في أصول الفقه، ص: 276.