نتناول في هذا الجزء الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمفهومي الحصر واللقب: 1- مفهوم الحصر أ- الدلالة اللغوية والاصطلاحية للحصر للحصر في اللغة معان منها: الضيق والإحاطة والتحديد والتعديد، يقال حصره يحصِرُه ويحصُره حصرا ضيق عليه وأحاط به، وحبسه عن السفر وغيره، وحصره استوعبه[1]، وعند أهل العربية: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه ويعرف بالقصر أيضا[2]. وفي الاصطلاح: نجد المعنى نفسه الذي تناوله به أهل العربية وهو قصر الشيء واختصاصه بالمذكور[3]. وهو نوعان: عقلي واستقرائي: فالعقلي: يكون دائرا بين النفي والإثبات، ويضره الاحتمال العقلي، فضلا عن الوجودي، كقولنا: الدلالة إما لفظي وإما غير لفظي. والاستقرائي: لا يكون دائرا بين النفي والإثبات، بل يحصل بالاستقراء والتتبع، ولا يضره الاحتمال العقلي[4]. ومدار مفهوم الحصر على العقلي الذي يدور بين الإثبات والنفي في إثبات الحكم للمنطوق ونفيه عن المسكوت. ب- أنواع الحصر مفهوم الحصر بوصفه مفهوما مستقلا، يعتبره بعض الأصوليين دون بعض، وهناك أيضا من يعتبر بعض أنواعه دون بعض، ولعل السبب في هذا وذاك "أن بعضهم اعتبر الحصر من المنطوق، ولهذا كفهم هذا عن عده"[5]. وأقوى أنواع الحصر: 1. مفهوم الحصر بالنفي والاستثناء: نحو قولنا: "لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةً إِلاَّ بِطَهُورٍ"[6]، وهو يعم جميع أنواع النفي، نحو: "ما قام إلا زيد"، "ولم يقم إلا زيد" و"لن يقوم إلا زيد"، كيفما تقلب النفي[7]؛ 2. مفهوم الحصر ب "إنما" نحو: "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ"[8]. "إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"[9]، وهو الذي اعتبره الباجي (ت 474 ه) دالا على الحصر، فلفظ الحصر عنده واحد[10] هو "إنما"[11]. قال القرطبي (ت671ه) (إنما) كلمة موضوعة للحصر تتضمن النفي والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه[12]، لكن وظيفتها أكثر من ذلك، فقد تأتي لتحقيق المنصوص عليه، لا لنفي ما سواه، نحو قولك: "إنما الكريم يوسف"، و"إنما الشجاع عنترة"، ولم ترد نفي الكرم عن غير يوسف، ولا نفي الشجاعة عن غير عنترة، وإنما أردت إثبات ذلك ليوسف عليه السلام[13]؛ 3. مفهوم حصر المبتدأ مع الخبر: ويشمل الخبر معرفا باللام أو الإضافة أو نكرة مثل الزوج عشرة[14]: "وخبر المبتدأ لا يجوز أن يكون أخص بل مساويا أو أعم، فالمساوي نحو: الإنسان ناطق، والأعم نحو: الإنسان حيوان، والعشرة عدد أزواج"[15]؛ 4. تقديم المعمولات[16]: نحو قوله تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [سورة الفاتحة، الآية: 4] ، وقوله سبحانه: "وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ" [سورة الاَنبياء، جزء من الآية: 27]، أي لا نعبد إلا إياك، وهم لا يعملون إلا بأمره[17]. ويدل على القول به كما ذكر القرافي: كلام العرب فإن قولهم: "إياك أعني واسمعي يا جارة" يقتضي أنه لا يعني غيره، وعن الأصمعي[18]، أنه مر ببعض أحياء العرب فشتمت رفيقه امرأة، ولم تعين الشتم له، ثم التفت إليها رفيقه، فقالت: إياك أعني، فقال الأصمعي: انظر كيف حصرت الشتم في[19]؛ 5. الألف واللام: قد ترد للحصر الثاني نحو قولنا: "زيد القائم" أي القيام منحصر فيه، وأبو بكر الصديق الخليفة بعد رسول الله صلى الله أي الخلافة بعد، منحصرة في الصديق[20] ومنفية عن غيره. وهذه هي الصيغ التي اقتصر عليها القرافي في شرح التنقيح[21] وأضاف إليها غيره. 6. ذلك: في قوله تعالى: "ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنَ اَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" [سورة البقرة، الآية: 196]، وقوله سبحانه: "ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ" [سورة النساء، جزء من الآية: 25].. 7. لام التعليل[22]: أو لام كي: ويحكي المالكية أنها عند مالك من حروف الحصر[23]، في قوله تعالى: "لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً"[سورة النحل، جزء من الآية: 8]. 8. توسط ضمير الفصل: نحو قوله تعالى: "فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ" [سورة الشورى، جزء من الآية: 9]، مفهومه أنه لا ولي غيره[24]. فهذه هي الصيغ التي اقتصر عليها المالكية، مع العلم أن هناك أنواع أخرى للحصر ذكرها علماء المعاني، كتقديم الفاعل المعنوي، ولم يقل ابن الحاجب (ت 646ه) وغيره بها لمجيئها في كثير من المواضع لغير الحصر[25]، ولذلك عرفنا عن التعريف بها ولعدم تعلق الفروع بها. 2- مفهوم اللقب: مفهوم اللقب يأتي في المرتبة الأخيرة من حيث الاحتجاج به فهو أضعف المفاهيم. أ. الدلالة اللغوية والاصطلاحية للقب: اللقب في اللغة ما يعبر به عن شيء، وفي اصطلاح أهل العربية، علم يشعر بمدح أو ذم باعتبار معناه الأصلي[26]، والعلم يتناول: الاسم والكنية واللقب، لكنه عند أهل الأصول يبقى الأخير أوسع معنى من العلم بأنواعه الثلاثة، فيشمل أسماء الأشخاص ونحوها: كمحمد وقريش وأبي هريرة والأعرج، وأسماء الأجناس والأنواع جامدة كالغنم والقمح والذهب والماء، أو مشتقة غلبت عليها الاسمية كالطعام والماشية[27]. هذا والأصل في اللقب تعليق الحكم على أسماء الأعلام أما أسماء الأجناس فيلحق بها[28] لكن هذه أقوى لأنه يمكن الاشتقاق منها. وقد قصر بعض المالكية مفهوم اللقب على مجرد أسماء الذات كابن جزي[29]، بينما اعتبر ابن العربي أسماء الأجناس المشتقة مفهوم الصفة[30]. وعليه، فيكون المراد بمفهوم اللقب دلالة اللفظ الذي قيد الحكم فيه بالاسم العلم[31] فيدل على أن غيره بخلافه. 3- ترتيب المفاهيم: رتب بعض المتأخرين هذه المفاهيم حسب قوة الاحتجاج بها إلى ما يلي: 1. مفهوم الحصر بالنفي والاستثناء مثل: "لا عالم إلا زيد"، لأنه قيل إنه منطوق صريح[32]؛ 2. مفهوم الحصر ب: "إنما" والغاية، لأنه قيل إنه منطوق بالإشارة[33]؛ 3. مفهوم الشرط: إذ لم يقل أحد أنه منطوق[34]؛ ولأنه أقوى من الصفة كما ذكرنا؛ 4. الصفة المناسبة[35]: "فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ"[36]، وقد تأخر عن الشرط؛ لأن بعض القائلين به خالف في مفهوم الوصف المناسب"[37]؛ 5. مفهوم الصفة الذي لم تظهر له مناسبة، "فِي الْغَنَمِ الْعُفْرِ زَكَاةٌ"[38]، فإناطة الحكم بوصف العفر لا تظهر مناسبته[39]؛ 6. العدد: وقد تأخر عن الصفة؛ لأن قوما من القائلين بمفهوم الوصف أنكروا مفهوم العدد[40]؛ 7. مفهوم اللقب وهو أضعفها. ويشير المراقي إلى هذا الترتيب فيقول: أضعفها اللقب وهو ما أبى من دونه نظم الكلام العربي أعلاه لا يرشد إلا العلما ما لمنطوق بضعف انتمى فالشرط فالوصف الذي يناسب فمطلق الوصف له يقارب فعدد فثمت تقديم يلي وهو حجة على النهج الجلي[41] وفائدة هذا الترتيب، تقديم الأعلى عند التعارض، فإذا تعارض مفهوم لحصر ب: "إنما" مع مفهوم الشرط، قدم مفهوم الحصر(...) وهكذا. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى -------------------------------- 1. "القاموس المحيط"، ص: 480. (حصر) 2. "محبط المحيط"، ص: 172 - 173. (حصر). 3. "معجم أصول الفقه"، ص: 163. 4. "التعريفات"، الجرجاني، ص: 78. 5. "مناهج الأصوليين"، ص: 242. ولعله يصدق على التلمساني الذي لم يتعرض لذكره عند عده لأنواع المفاهيم. 6. "تقريب الوصول"، ابن جزي، ص: 88. 7. "شرح تنقيح الفصول"، ص: 58. "نفائس الأصول"، (2/1078). 8. أبو داود: "كتاب الطهارة، باب الإكسال"، رقم 215. 9. رواه البخاري في كتاب المكاتب، باب إذا قال المكاتب عن عائشة. ومسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، رقم: 8. ومالك في العتق والولاء، باب مصير الولاء لمن أعتق، (ح. 17)، جزء من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. 10. وعند ابن رشد الحفيد: "إنما الألف واللام"، "الضروري"، ص: 119. 11. "الجامع"، (2/164). 12. "الجامع"، (2/164). 13. "الإشارة"، ص: 293. 14. "شرح تنقيح الفصول"، ص: 58. 15. "الفروق"، (2/41). 16. أو تقديم ما أصله التأخير، "منار السالك"، ص: 82. 17. "تنقيح الفصول"، ص: 57 - 58. "الذخيرة"، (1/64). 18. عبد الملك بن علي بن الأصمع الباهلي أبو سعيد راوية العرب نسبته إلى جده "الأصمع" توفي 216ه. "شذرات الذهب"، (2/36). 19. "شرح تنقيح الفصول"، ص: 60. 20. "نفائس الأصول"، (2/1079 - 1080). 21. في حين ذكر في التنقيح الأربعة الأولى فقط، ص: 57 - 58. 22. "أضواء البيان"، (2/255). 23. "إحكام الفصول"، ص: 513. 24. "منار السالك"، ص: 82. 25. انظر: "حاشية منهج التحقيق لمزيد تفصيل عنها"، (1/203). 26. "محيط المحيط"، ص: 821، (لقب). 27. "أصول المذهب المالكي"، الأستاذ الداودي، مرجع سابق، ص: 16. 28. "الفروق"، (2/37). 29. "تقريب الوصول"، ص: 88. 30. "أحكام القرآن"، (2/337). 31. بأنواعه الثلاثة مع عدم اعتبار المخالفة المذكورة لابن جزي (...) لما سيأتي. 32. "نهاية السول"، ص: 61. "نشر البنود"، (1/104). "نثر الورود"، (1/114). "مذكرة أصول الفقه"، ص: 238. "حاشية منهج التحقيق"، (1/192). 33. "نهاية السول"، ص: 61. "حاشية منهج التحقيق". (1/192). 34. "نهاية السول"، ص: 61. 35. هو ما تضمن إناطة الحكم به مصلحة، نفسه. 36. أخرجه أحمد، (1/11 - 12). أبو داوود، (2/221). والبيهقي، (4/86). 37. "نثر الورود"، (1/115). 38. حاشية العطار على شرح الجلال، 2/314، و2/327. 39. "نثر الورود"، (1/115). 40. نفسه، (1/116). 41. نفسه، (1/113 - 114).