بعدما تحدثت في المقال السابق عن نبوغ أهل سبتة في مجال السيرة النبوية والشمائل المحمدية، وبينت أن الاهتمام بسيرة النبي الكريم من مختلف جوانبها مسألة تتعدى الجانب السلوكي إلى جوانب معرفية وتاريخية وأدبية تجعل موضوع السيرة ينخرط في صيرورة فكرية تضم كافة المعارف بشكل يجمع بين علوم الحال وعلوم المآل وفق الهدي النبوي المبارك.. لم يكن الاهتمام بأخلاق الرسول الكريم وسيرته ومسارات حياته معزولا عن اهتمام السبتيين بعلوم العقل والطبيعة والأرض وأسرارها والمسالك ومقاصدها والتاريخ وفلسفته. ليس غريبا إذن أن تشكل العلوم الطبيعية وعلوم الأرض جزءا محوريا في مباحث السبتيين، فقد قدمت سبتة خلال العهد الموحدي أعظم جغرافي في العصور الوسطى هو الشريف الإدريسي[1]. وخلال القرن السابع برز محمد بن عبد المنعم الحميري كعالم بالسير والأخبار والبلدان، ولا نعلم لابن عبد المنعم جولة في الأمصار تعرف خلالها على البلاد، غير أنه اكتفى بالمعلومات التي نقلها من كتب مختلفة ودونها في كتابه: "الروض المعطار في خبر الأقطار"[2]. وهذا يدل على وعي كبير بأهمية التركيب لمعطيات جغرافية متناثرة في عديد المصادر، وعلى الرغم من أن صاحبنا الحميري لم يكن "رجل ميدان"، إلا أنه كان ذا حس مدرسي ومنهجي كبير مما جعل الروض المعطار من أهم المصادر الجغرافية على الإطلاق. لقد بين الحميري في مقدمة كتابه النفيس منهجه في تأليفه الذي أراده أن يكون معجما جغرافيا على حروف المعجم، مؤكدا على مجموعة عناصر تتمثل في: الصيت الذي يحظى به المكان الجغرافي؛ اتصاله ب "قصة أو حكمة أو خبر طريف أو معنى مستملح مستغرب". وبذلك جمع هذا المعجم بين المادة التاريخية – بذكره للأخبار والوقائع – وبين مادته الأساسية التي هي الجغرافيا. ومن زاوية إبستيمولوجية يلاحظ أن ابن عبد المنعم الحميري اعتمد على المصادر المغربية، خاصة كتاب: "نزهة المشتاق"، للجغرافي الكبير الشريف الإدريسي السبتي، كما توسع في نقله عن المصادر التاريخية، مغربية ومشرقية… قلت أن الحميري وفر على أجيال بأكملها جهد التركيب والتجميع والتنقيح الذي قام به في كتابه "الروض المعطار"، إذ نجد علماء كثر نقلوا عنه مثل القلقشندي صاحب: "صبح الأعشى في صناعة الإنشاء"، والمقري في "نفح الطيب"، والسمهودي في كتابه "وفاء الوفا" ومحمد بن عبد السلام الناصري الدرعي في رحلته، وأبي القاسم الزياني في: "الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا".. وفي المسار الجغرافي العام الذي سلكه علماء سبتة تأتي كتب الرحلات في مقدمة المصادر الجغرافيا، وقد كان للمغاربة ولع كبير بهذا الفن وقد حازوا فيه قصبات سبق.. ويقول الفاضل إسماعيل الخطيب في "الحركة العلمية بسبتة خلال القرن السابع، 1986، طبعة تطوان" أنه بالرغم من أن ابن رشيد جعل اهتمامه الأول والأخير في رحلته وهو لقاؤه لحملة العلم فإن رحلته لا تخلو من إشارات جغرافية[3]. أما التجيبي فقد اهتم أكثر من ابن رشيد بالناحية الجغرافية، فوصف الأماكن التي زارها، واهتم بمشاهدة مكة وآثارها، كما اهتم بمآثر القاهرة، فوصف الأهرام وأبا الهول ومقياس النيل، كما وصف الطريق من "قوص" إلى "عيذاب" والحركة التجارية في شاطئ البحر الأحمر. أما في مجال الفلك والنجوم، فيعتبر الشريف الإدريسي من أوائل علماء الفلك في عهد الدولة الموحدية، التي شجع خلفاؤها دراسة هذا الفن، وما يتصل به، ولا شك أن الاعتناء الكبير بالفلك، يفسر في بعض جوانبه بما كان له من اتصال بالعبادات التي تعتمد عليه في تحقيق أوقاتها، وقد برز من علماء الفلك السبتيين: محمد بن هلال: إمام التعاليم، وله شرح على كتاب المجسطي في الهيأة، و أبو بكر محمد بن يوسف الليثي ثم السبتي، له رصد اعتمده أهل هذه الصنعة[4]. وفي علوم الرياضيات، عرف المغرب خلال أواخر القرن السادس والقرن السابع ازدهارا ملحوظا في العلوم الرياضية، وانصرف النشاط العلمي إلى فروعها من حساب وجبر وهندسة وفلك، ونبغ طائفة من الرياضيين كان لهم التفوق والفضل المعترف به، خاصة عند الأوربيين الذين أدهشتهم تحقيقات ابن البناء العددي[5]. أما الحساب: فيعتبر ضروريا، نظرا لعدم استغناء دوائر الدولة عليه، وخاصة القضاء في توزيع التركات والفروض والنفقة. ومن أساتذة الحساب: يوسف بن يحيى بن إسحاق السبتي[6] درس الحساب وغيره من علوم الرياضة، وعبد الرحمان الهزميري، عالم بالحساب والهيأة، أخذ عنه أبو العباس بن البناء[7]، ومحمد بن محمد أبا بكر القللوسي له: "الكسر في علم الحساب، ووله في الفرائض كتاب: "إثارة الوسائل الغوامض في معلقات مشكل الفرائض، وعلي بن هلال: كان عدديا ماهرا[8]. ويفيدنا الفاضل إسماعيل الخطيب في كتابه المذكور أن علوم الهندسة قد عرفت بسبتة خلال القرن السابع ازدهارا في البنيان خاصة خلال الحكم العزفي، وقد عمل أبو القاسم على بناء سور[9] مواجه للبحر، كما بنيت طائفة من المساجد، وبنيت المدرسة الشارية، وملحقاتها، إلى جانب الدور والقصور المتعددة، وهذه النهضة العمرانية تحتاج إلى طائفة غير قليلة من المهندسين، وقد أوصلتنا أسماء بعضهم مثل: محمد بن إبراهيم بن أبي بكر أبو الطيب السبتي، كان ملما بالهندسة[10]، وعلي بن هلال الحضرمي، كان مهندسا حاذقا[11]، ومحمد بن عبد الله بن أبي زين العبدري، وصف بالمعرفة والهندسة[12].. يتبع بحول الله تعالى.. ————————————————- 1. راجع محمد المنوني، العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، 78 – 87 . 2. طبع في لبنان طبعته الأولى بتحقيق الدكتور إحسان عباس، سنة 1975. 3. راجع – مثلا – الجزء الثالث في حديثه عن مآثر الإسكندرية، والجزء الخامس في تحديده للأماكن المقدسة، وهو تحديد ربما فاق فيه كثيرا من القدامى في تحديده للأماكن المقدسة، وهو تحديد ربما فاق فيه كثيرا من القدامى الذين كتبوا في جغرافية الحجاز. 4. العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين 110. 5. أحمد بن محمد الأزدي المراكشي ولد عام 654/ ونبغ في العلوم الرياضية، وصنف فيها كتاب التلخيص في الحساب، وشرحه المسمى برفع الحجاب، إلى جانب مؤلفات أخرى عديدة في الفلك، والفلسفة، والعلوم الشرعية واللغة. 6. ابن سمعون اليهودي، انتقل إلى مصر، فأقام عند موسى بن ميمون القرطبي، ثم تحول إلى حلب، وبها توفي سنة 623، إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي 256. 7. جذوة الإقتباس 263. 8. الذيل والتكملة 5: 419. 9. الذخيرة السنية، 80. 10. درة الحجال 2:41 – الوافي بالوفيات 2:6. 11. الذيل والتكملة 5:419. 12. الذيل والتكملة 6:509.