العالم المعاصر يخطو نحو مستقبل غامض لا نعرف آفاقه بعد، فالظلام حالك والمحنة الإنسانية قاسية، عالم يزداد اختلافا والكرة الأرضية تعيش لحظة انحدار مشهود، ويعلم الله أنني خائف أن نجد أنفسنا في القاع، وهذا الانحدار يتجلى في سلوك الإنسان وأنماط حياته، وتقزيم الوعي وطمس العواطف النبيلة بين البشر، والله سبحانه أسأل، أن نعيد اكتشاف الفهم الصحيح الذي هو الفهم، بل هو التفاهم الإنساني لنجاة البشرية من كوارث اللاتفاهم، بغرس جديد من شباب هذا العالم الباذل القادر على إزالة العوائق المتعددة لتوفير الخير والرخاء للمجتمع الإنساني. إن التفاهم الإنساني الحقيقي هو الذي يكشف عن هموم الناس ومشكلاتهم بتقنيات يديرها الشباب بمهارة عالية الجمال، يصاحبها قرار ونظرة عملية إلى المستقبل، فتخلفنا نحن البشر وعواقبه الجسيمة هي آفات حياتنا بتبديد الجهود، وإعاقة تسامي الروح والعقل والقلب، هذه هي الأزمة الطاحنة التي ترسخت وأضحت عاهة مزمنة حضارية شوهاء لطخت جبين البشرية. وفي كل الحضارات وبين كل شعوب الأرض، نجد المتميزين في العطاء الإنساني من الذين لقنوا الأجيال دروسا تحتذى في المبادئ والثبات، وجنبوا البشرية منزلقات، وخلفوا وراءهم ثروة فكرية وتجربة روحية بمثابة منبع لإلهام لا ينضب ولا يغور، وهم أشرف منا نفوسا، حتى وإن سرنا في تيار المدنية الحديثة، فهم من ألهمونا تلك الحياة الطيبة الجميلة التي تبدل كأس الحياة المريرة بهجة تكاد لا تحد، يرتشف من معينها الشرق والغرب. والإشعاع المتواصل شباب يتلوه شباب يساوي بين البشر؛ لأنه منبع الحب الصحيح، ومعين السعادة والعواطف المقدسة التي أودعها الله عز وجل في قلبه ليتطهر بها من كل رجس كالناسك المتبتل يخلع عن عينيه المنظار الأسود، فتتكشف للناس أعماق الوجود جمالا وبهاءا يتجدد بتجدد الأجيال. واللؤلؤة المشعة بكل مظاهر الثراء الثقافي الإنساني، التي ترنو إليها الأبصار وتصيخ الأسماع، إنه الشباب الحاضر لوجوده الفاعل في عمارة الأرض بإرثه في بنك الصداقات والعلاقات الإنسانية الحميمة، وحضوره يتجلى كلما وقعت البشرية في محنة، ويدرك في صميم وعيه وبصيرته، أنه سابق لزمنه ينضبط دون الاستعانة بضوابط، إنه الزهرة التي يقطر منها الندى لخلق حياة نابضة حية تنساب وديعة نشوى، وتشع حيوية دفاقة، كالطائر يغرد مع الفجر آونة على الأيك وتارة بين الخمائل يرسل شدوه لكل مكلوم وجريح وكسيح، لاستنطاق المسكوت عنه في حياة البشرية المعذبة. إنه ليس هناك من يستطيع أن يمنع شرفاء البشرية عن التقدم نحو مقاصدها الكبرى الرامية إلى مجتمع إنساني يلتزم الحق ونصرته، والوفاء بالعقود والعهود، وبالحق والصبر ينتصر منطق العدل والنور على وجه الأرض، لقد علمتنا التجربة أنه ليس هناك في الأمم صغير وكبير، وإنما الأمم تكبر بإرادة شبابها وقيادتها الشابة، والشباب قد يأخذ وقتا طويلا لإسراج خيوله، لكنه ما أن يفعل ذلك حتى ينطلق مسرعا، وعلى أغصان الشباب تتفتح الزهور وتنضج الثمار، وفي ظله يجتمع العاملون الفاعلون كروافد من كل فج عميق حول رب واحد وإنسانية واحدة، وتحويل الأفكار إلى أعمال، وأمتنا لا ينبغي أن يبقى شبابها منعزلا عن شباب المجتمعات المعاصرة التي بيدها مفاتيح العصر، من العلم والمعرفة والتقنية والخبرة. وعلى الذين يخططون للمستقبل أن يكونوا على وعي بكل ذلك وما هو فوق ذلك، أن يكونوا جزءا من القوة التي تحمي السلام العالمي، ثم بالتعايش المتوازن، واستخراج القدر المشترك بين شباب العالم، والمجال الرحب الذي يمكن أن يحدث فيه التعاون وتقوى به الروابط الإنسانية، وعلى هذا تتغير المعادلة من تصادم وصراع إلى تعاون وتعايش، تعاون فيما تتفق فيه وتعايش فيما يتميز به كل طرف؛ لأن الحضارة متفاعلة متكاملة، والحيوية تنتقل بسرعة من المجتمعات الناضجة الحية إلى غيرها. وتصورات الغد هي تاريخ المستقبل، إننا مهما نسجنا قواقع حول وعينا ومشاركتنا مع البشر، فلن نستطيع أن نتجاهل الهجمة الحضارية الحديثة، ونحن لسنا أبناء الأمس، لكن هذا الحاضر الذي نعيشه يحتاج إلى ضريبة، وضريبة المشاركة باهظة لا شك في مجمل ظروف تاريخنا وعيشنا المعاصرين. وهناك لا شك مصوغات شخصية قوية لا يمكن تجاهلها، أن النخبة لا تمنح الفرصة الفضلى للإمكانات والمواهب أن تنفتح إلى حدودها الطبيعية القصوى عند الشباب، مما أدى إلى خلخلة الكم والكيف وسد باب الإبداع ومحاصرة الابتكار في وجه الشباب، مما شكل تضييقا حقيقيا آخر على الأجيال الصاعدة، لكن الإيمان القوي بالله عز وجل هو طوق النجاة في بحر هذه العواصف لعبور الجسر إلى الآخر في أقدس وأعز حلقاته إلى التلاقي الإنساني الجديد، والخروج من المغطى المرموز إلى الواضح المكشوف. يتبع في العدد المقبل..