لقد علمنا التاريخ والتجربة أن الشباب الواثق من نفسه لا ينأى عن الساحات العالمية ولا ينعزل عنها يقدم لها من الأعمال ما ينير السبيل ويرشد إلى العدل والأمن والسلام ، وعلى الأمة أن تعلم أن الشباب لم يخلقوا لأنفسهم ، وإنما خلقوا للنهوض بأمتهم وهم منبع الابتكار ، بل هم الزوارق المخترقة عباب بحر الحياة المائج ، وقل ما شئت فيهم فهم نسمات الربيع لا ينظرون إلى الأشياء دون أن تلمسها أرواحهم ، وتضمها وجداناتهم بما يحملون من أحزان العالم ، وأنا لا يعنيني هؤلاء الذين ينكرون دور الشباب ويجحدون فضله ناسين أو متناسين أنه الغرس الصالح الذي يجب على الأمة أن ترعاه حتى يينع ويثمر ، ولا تريده ذا بلا أو ذاويا ولتسير الأجيال دوما في خدمة الإسلام والعرب والإنسانية التي نحن جزء منها ، ومسيرتنا إلى الأمام تزداد على مر الأيام بالشباب سموا وجمالا ، وقد تزداد بالإعراض عنهم قبحا وسوءا وفسادا في هذا الليل الطويل من التخلف والانكفاء إلى الوراء . إن الأرض لله والبشر مستخلفون فيها، وفي القرآن الكريم ما يغني الأمة بالسعي في الأرض لتشارك الآخرين في مناحي الحياة، ولكن على أساس السلوك الحميد، حتى يكون أثر ذلك ظاهرا بين المسلمين وغير المسلمين، ليشد الناس أزر بعضهم البعض، ولا شك في أن ذلك ضمانة قوية للطرفين لتحقيق السعادة والفلاح الإنساني، وهذا هو السبيل للخروج من دوامة سوء الظن التي أشقت الإنسانية، وهددت الوجود البشري، وما صاحب ذلك من مساوئ ومثالب، بشكل ملحوظ في واقعنا المعاصر بصورة يندى لها جبين البشرية، ويشاء الله لتصحيح هذه الممارسات الخاطئة وتوجيه هذه الأنفس المضطربة إلى من يدلها على الطريق الصحيح، من شباب أخلص الأمر لله وآلى على نفسه حمل رسالة التغيير من السيء إلى الحسن، ومن الفساد إلى الإصلاح بتقنيات حديثة وحوارات مستنيرة تعمل على الإكثار من تواجد أجيال من الشباب المتناصحة فكرا وعلما لتجسيد النموذج المحترم الذي يفيد ويستفيد ويرتقي بالعنصر الإنساني إلى درجة تجعل شبابنا وشباب الآخر في لهفة استماع تصل بالجميع إلى حلول لكثير من المشاكل التي تقف سدا من الفولاذ والصخر الذي يفسد ذات البين، وإنه لا يقدر على تحطيم الواقع الأليم في إطار ربط العلاقات المتميزة، والوصول إلى مكاسب تبهر الألباب وتدهش العقول إلا بشباب متمرس مسلح بمزيد من الفهم لكشف الغطاء عن المندسين الذين يسبحون في الماء العكر، ويومها تكون للإنسان مكانته في الكون . والآن نأتي إلى الشباب: ما علاقته بما يجري في هذا الكون؟ وما مقامه؟ ولكن قبل الجواب فمهلا فشباب الإسلام مكلف بتبليغ الرسالة الخاتمة للناس جميعا، وهل الآباء والأمهات يقدمون لهذه الأفواج المتتالية من الشباب النموذج والمنارة الباهرة الأضواء؟ ليكون الشباب عزا متوجا لجهودهم للتصالح والتعايش مع الآخر، والخروج من دوامة هذه الغفلة الحضارية التي من خلالها اختل التوازن في دائرة التناقضات العدائية الممزقة لحبل التواصل الإنساني. والعقول المتبصرة مطالبة بمراجعة بعض المفاهيم وتحريرها مما يشوبها من غموض وغيوم، حتى يتعلق الآخر بالآخر وحتى لا يقع مرة أخرى في مطبات المغالطة والتشكيك والنكوص إلى الوراء، فلا مناص من الحذر مع بذل الجهد واستفراغ الوسع في سبيل استلال بواعث الكراهية من دخائل الناس، حتى يتيقن الجميع أن المشعل الذي يحمله الشباب هو ذو ثراء وخصوبة وتنوع، إلى ذلك كله أنه عقل يبني الحضارة ووجدان يهفو إلى كل ما هو حضاري وثمرة علم من نتاج الحضارة، وما يلبي أشواق البشرية ويحقق مطامحها العليا، وبما يدعم الكيان الإنساني، وشجرة الإبداع لا يمكن أن تزدهر في تربة الكراهية والبغضاء والقطيعة، ونهر الحضارة الذي هو الإسلام لا يمكن أن يبقى حكرا على فريق أو قسرا على طائفة، هو ماء الحياة لإرواء عطش الإنسانية، بل هو المساواة النابع من العدل الرباني، وهو برهان ساطع على وجود صلة بين الإنسانية، أما ركيزة العلاقات البشرية بها يتجلى التواصل والتفاهم، وعندما نشاهد التنوع والاختلاف فعلينا أن نعي أن ذلك أدعى للتقارب والتعاون، وأن قول الشباب في هذا الميدان ليس مكررا معادا وإنما يأتي في هذا الزمان البئيس رضا أنفا. والشباب أراد أن يعلمنا نحن ويعلم الآخر أن دعوته إلى دنيا الناس يلتقي فيها الإطلاق والانطلاق، في رحلة تجوب الآفاق لفك عزلة الضعفاء من مستنقع آسن حرمهم أن يعيشوا الإسلام تحقيقا إلى أن ييسر الله أن يعيشوه تطبيقا، وأن يواجهوا الأحداث بقوة وعزم، ويومها يعلم الناس أن الشباب رائد فكر وإصلاح، لذلك وجب علينا نحن المسلمين أن نحافظ على هذا الرائد ونرعاه؛ لأنه لا يعيش لنفسه، ولذلك فهو ليس بمفرده ولكن بمعية الله تعالى، والإسلام نعمة فلا ينبغي أن يحرم منها الآخر، إن جهد الشباب يستحق الوقوف عنده وهي رحلة مشقة تستحق التفكير وحسن التدبير لكل عمل ناجح في عظائم الأمور ودقائقها، والعبرة ليست بالقلة أو الكثرة، وإن مستقبل الإنسانية في فكر الشباب يتعلق بحل إشكالية التفاهم بيننا وبين الآخر، وإن انتشال المجتمعات الإنسانية في قارات الأرض الخمس من الوضع البئيس، لا يمكن أن يتم إلا برفع رايات التقارب الإخائي على أساس من التراحم والتعاون الذي أضحى ضرورة من ضرورات العصر. وإن التعايش مع الآخر مع هذه الضحالة من الحيرة والقلق تدفع بنا إلى إيجاد الانضباط والتوازن، لفتح صفحة تكشف عن السلوك الإنساني المأمول في أدق صوره، لمداواة آهات وآلام صرخات كل مقهور وضائع في بالوعة هذه الهمجية التي تستحل كل محظور، وإساءة الظن بعباد الله والرعونة، وإنه ليس من التسامح أن يقف الشباب موقفا المتفرج علما بأنه ربان الاطمئنان لخوض متطلبات الأمن الحضاري والأمن الروحي، من خلال تسلحه بآليات إبداعاته وبتجارب من مضى من الرواد الذين كانوا صناع التآخي الإنساني المتألق الخفاق، وبإمكانه أن يعلي صرح الحاضر بموروثه الماضي ويضفي عليه من عبقريته باطراد خلال العراقة ليباشر المستقبل وبما يدعم مكانة الإنسان في الواقع المعاصر لتصحيح المبتدأ والمنتهى. والمستقبل مربوط بشبابه القوي الناهض المتحرك المتماسك العصي في وجه دعاة أحابيل الفرقة والتمزيق، وهو الدعامة لخير الإنسان وعزته، ودحر كل متربص وذي شنآن، والمنبه الدائم لالتحام فروع الشجرة الإنسانية واستنهاض الهمم، ليزكو الشعور البشري صامدا، وإذا كان الشباب هو الوعاء تتشكل منه المجتمعات فهو روحها المحرك وقلبها النابض… يتبع في العدد المقبل…