لا خير في فكر لا يثير في نفس صاحبه النشاط ويتحول إلى سلوك وعمل- وبالأخص الشباب-، أو يؤدي إلى أدوات وإبداعات تعين الإنسان على حل مشكلاته الحياتية، وهذا في ظني ما نفتقده ولا نجده في واقعنا، والحقيقة أن المجتمعات التي تعمل بما تؤمن به من مثل وقيم تميل إلى اختصار الكلمات؛ لأن الكلمة الواحدة عندها صادقة صدقا كاملا لا تحتاج لإسهاب ولا تكرار. والنهضة الحقة تتحقق بسبب إيمان بالغ القوة وبعقيدة جديدة، تضع الحلول للمحن المعاصرة الكبرى والثقة بالنفس، ولا نهضة لأمة يفقد شبابها الثقة في قدرتها على أن تحدد بنفسها ما تريد، وأن تضع لنفسها الحلول لمشكلات وأن تزيح كل ما يعوق العمل لتحقيق أهدافها، ولا يكون ذلك إلا بردم النقص الموجود بالتأكيد، وتحديد دقيق للمشاكل المعاصرة التي نواجهها، والتفكير بأننا لسنا قابعين في جزيرة منفصلة عن بقية التفاعلات الفكرية والعلمية والعملية العالمية، بل علينا أن نكون متفاعلين مع بقية الأمم والشعوب في هذه الدنيا، وأن نسعى لنكون من الرواد في هذا المحيط البشري بدلا من أن نكون بحيرة تصب فيها الروافد الأخرى فقط، والابتعاد عن المغالات في المثالية التي تقفز فوق الواقع، وهل حقا في شبابنا من يجاري الرحالة ابن بطوطة المغربي الذي سلخ في رحلته نحو ربع قرن، وترك لنا عن أسفاره ومشاهداته أجمل أثر عربي إسلامي إنساني من نوعه، رحلة تعد بحق من أبدع آثار السياحة والاستكشاف، وإذا كان المقام لا يتسع للإفاضة في ذكر هذه الآثار، حيث الجراءة والإقدام وقوة النفس والثبات والجلد وبساطة تحمل على الإعجاب، ويسير في ركب المخاطر في أعماق البحار والجبال والصحاري ومن تحت العباءة المغربية الجوالة نريد أن نرى ونسمع فصائل وجماعات من الشباب تملأ السمع والبصر على امتداد الساحة العالمية، يدفع به الإيمان والعزم على البناء وتحدي آلة الصناعة بالعلم والعرق. فالشباب نريده أن يتحرك مع خيوط الفجر إلى الحقول والمصانع والمدارس والجامعات والمعاهد والمشافي، فالساحة الإنسانية بالعلم والصناعة والاختراع والابتكار تتجدد مع إشراقه شمس كل صباح ذلك لأن النهضة لا تبدأ من فراغ ولا تعيش فيه، إنها حوار متصل مع موجودات الكون، وتشكيل يستهدف مزيدا من الوعي بمشكلات العصر، ومسؤولية الشباب كقوة حضارية متفاعلة مع المسيرة الإنسانية، وبقدر مشترك من الإيمان بالله تعالى والإخاء الإنساني وحب العلم ونكران الذات والتسلح بالصبر بمسؤولية عابرة للحدود والعصبيات الضيقة، نحن في حاجة إلى ما يسمى الأمل والعمل بالكلمة الحية القادرة على أن تكون عملا، ويوم يصحب التعدد بيننا وبين الآخر تعاون يستطيع الكل أن يثمر للبشرية خيرا، وبهذا تتكامل الصورة الحضارية لننظر من خلالها إلى مشارف مستقبل واعد. ويوم نجمع الإرادات المفككة والطاقات المبعثرة نقهر الطريق الطويل المليء بالعقبات والاشواك، آنئذ تكون لشبابنا الوثبة القادرة على النهوض؛ ولأن الإبداع ليس حكرا على لون أو جنس من البشر، والإبداع هو حمل هموم الإنسان وعذاباته منذ وعى وجوده، وطوف في الآفاق وأبحر في أساطير الماضي، ثم ألقى عصا الترحال في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ليتنفس عبير رائحة الأندلس التي فجرت عبقرية الإنسان المكدود على كوكبنا الذي غير حياة الناس من الغصة والعذاب إلى أمل في المستقبل المسكون بالنور الأبيض، وبفضل الإبداع تجمعت جداويل صغيرة وأنهار فكونت نهرا كبيرا أسماه أهله الحضارة المعاصرة، بؤرة صراع بين عالم شائخ وعالم شاب هو الوحيد الذي لم يمت لأنه يمثل سربا كثيفا من النحل يطوف بالبساتين والحدائق يحلق حولها ويطير ويحط على آلاف الزهور ذات العطور المختلفة والألوان المتباينة لكنها في النهاية كون للإنسانية بركة من عسل نطلق عليها اسم الحضارة الشابة. ولولا الآلام التي رافقت الإنسان في أسفاره ومسيرته الكبرى نحو المستقبل ما عرفت البشرية حقيقة الرقي ونور التقدم، والإبداع ليس حكرا على جيل دون جيل أو على لون من البشر، الإنسان المبدع يكون مبدعا عندما يصرخ في وجه الجهل والفقر والمرض، والإبداعات تولد يوم يتمخض الطموح، وعندما تولد الابتكارات تكون مكتملة، وتكون ماهيتها متناسقة، وبصياغة دون الإخلال بمكانها وبموقعها في السياق الحضاري، وإذا لامس مكانها وكينونتها فتح الطريق أمام من يملك آليات وحكمة تدبير الحياة الزاهية، وفعاليتها تمثل عنصر المراقبة المستكن في ضمير المؤمن بالله تعالى. والإبداع مجاهدة ومكابدة واقعية تؤول إلى تجرد مفهوما وغاية، وتفتح عقلي للنهوض بالحقائق الكبرى في هذا الوجود، وإيثار وإنكار للذات مبرإ من الدوافع الأنانية، وعلى شبابنا أن يدرك الأفكار الصائبة ويعلم أنها هي تلك التي تسمح برؤى شاسعة وآفاق عريضة، تنظر إلى الكون في عمقه وامتداده، وقابليته للتغيير والتطوير، بدل النظرة الملففة برداء العجز والتواكل والانبطاح وهنا تحضرني أن العالم الأندلسي ابن حزم رحمه الله يوم نظر إلى الآية الكريمة: "كل يوم هو في شأن" [الرحمان، 29]، فاحتار ثم أدرك بذكائه النافذ أنها تفضي إلى مبدإ الحركة في الإسلام وأن كل شيء في هذا الوجود متحرك ومتغير، ولذلك حين سئل أحد العلماء: ما شأن ربك الآن، وقد صح أن القلم قد جف؟ قال: "هي أمور يبديها ولا يبتديها" أي أنه سبحانه قد رسم كل شئ وجعل له زمانا ليظهر، فهو: "قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم" البحر المحيط لأبي حيان 8/191. وكلما اقترب الإنسان بفكره وعلمه وعمله من الكون تفلت من عجز التواكل مدفوع إلى واصل أعمق، ومع الاندهاش والحيرة من شبابنا يأتي الابتكار والإبداع، والحياة مواصلة والإنسان مسافر قدما نحو أنوار جديدة تضيء سبيل السائلين المجدين والمآلات بمقاصدها حتى لا يغلط الغالطون ويجرون وراء السفاسف والأوهام مهملين ضوابط الحياة وأحوال العصر، وظروف المجتمعات الإنسانية وهناك لابد من الانتباه إلى القضايا الحيوية ومراعاة العصر وحاجات الناس، وليس صحيحا أن يقال: أن الأول لم يترك للآخر شيئا لكن الصحيح كم فاق الأواخر الأوائل. كما أن الحكم بالعجز على فرد لأسباب ودواع معينة يمكن فهمه وتبرير دواعيه، ولكن الحكم بالعقم في ميادين الابتكار والإبداع على شباب أمة بكامله أمر يدخل في نفق الأسئلة المظلم وربما يدخل في دوائر الجهل، وهنا لابد من طرح سؤال: وضع كهذا أنى تتسع جسور التواصل بينه وبين الآخر؟ وللعلم أن التواصل الحضاري الإنساني يبدأ من عتبة البيت مرورا بالمدرسة والمعهد والمجتمع، وقد لا ينتهي هناك ليشمل ساكنة الأرض، وبذلك تترتب جلسة ود اللقاء والسلام والصفاء لصنع تاريخ جديد يسهل مهمة الإنسان في الانصهار مع أخيه الإنسان، وبما يبشر برفاه بني وبنات آدم وسيادة السلام العادل لكل أقطار الدنيا، وبالمعالجة الجديدة يفتح شبابنا أمام البشرية مكانا صحيحا ننسج خيوطه بنور العقل والعلم والمعرفة، وانفتاح جاد ذي منحى إضافي للإبداع الجاد، والإنسان صانع تواصل قبل أن يكون صانع أفكار وعواطف لكن إرادة الله تنفذ في مسارها السرمدي، وللإنسان ما رسم وخطط، وبالتجديف الدائم ضد تيار العزلة والجمود تستمر مسيرة التقدم البشري إلى الأمام. والله من وراء القصد