قلنا أن ذروة الوعي في مجال علم النبات الطبي كان هو أبو الخير الإشبيلي صاحب عمدة الطبيب في معرفة النبات، كما أن الوزير الغساني صاحب حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار يعتبر المثال الأعمق لازدهار مدرسة في الطب إبان حكم أحمد المنصور الذهبي.. والجدير بالذكر أن ليس هناك في كتابي الإشبيلي والغساني حديث عن الجن والسحر وطرد الأرواح الشريرة، واستدعاء أو طرد الجن ببخور محددة، مما يطرح أكثر من سؤال حول هذا المنهج القاطع مع بنية التفكير السحري، ومعلوم أن الأشبيلي عاش خلال العصر الموحدي، وهو العصر الذي عرف معتقدات وطقوس مرتبطة بالجن والخفي عموما خلف لنا الإخباريون كثيرا من عناصرها. هذا ما يؤكد ملاحظتي بكون التجربة والعمل الميداني والتفاني في تعلم الأسماء لا يوازيه حديث في "الخفي" إلى بشكل استثنائي. لكن الطب سيعرف ركودا جديدا في أواخر العصر السعدي، وسيزدهر "الطب الروحاني" بشكل مثير، نستشف ذلك من قصة أوردها صاحب مباحث الّأنوار، يقول: "فقد جاء أحدهم إلى مسعود بن محمد الشراط بولده المقعد فلما أدخله عليه رفع سيدي مسعود رضي الله عنه رمحا مهددا له به كالمريد لضربه ففزع الرجل من ذلك وانزعج انزعاجا فسقط ولده من ظهره وهرب، وعندما سقط الولد قام على رجليه وأخذ في الفرار خائفا من الضرب أيضا"!![1]. خلال العصر العلوي عرف التدريس الطبي بجامعة القرويين بعض الازدهار، وقد كان للتراث الأندلسي الطبي[2] أثر فاعل في المعرفة الطبية لدى علماء جامعة القرويين؛ وفي حضور مؤلفات ابن رشد وابن طفيل وابن باجة، وابن الخطيب والشقوري، وغيرهم تأثير كبير في ذلك.. يمكن القول أن جامعة القرويين أصبحت، بعد انهيار الأندلس، الراعية للتراث الأندلسي في محاولة للمحافظة على إشعاعه واستمراره، كما عرفت جامعة القرويين بكثرة التآليف الطبية، وذلك من خلال تذييل العلماء لأرجوزة ابن سينا كابن عزرون ومحمد بن قاسم بن زاكور وأدراق[3]، وكذلك من خلال نقد كتابي الأنطاكي: "تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب"، و"النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة".. لقد نبغت خلال هذا العصر أسرة أدراق التي كان منها الأطباء محمد وابنه عبد الوهاب وقريبه أحمد طبيب السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي دخل طنجة في عهد احتلالها من طرف الانجليز بقصد ملاقاة الأطباء النصارى ورؤية الشخص الذي صوروه لتعليم التشريح معاينة، والطبيب أحمد بن محمد طبيب السلطان مولاي إسماعيل[4]. وكان الطبيب أحمد المختص بالسلطان مولاي إسماعيل ذا وجاهة وبروز بين أقرانه حظي عند السلطان لخبرته بالأمراض ومعرفته بأدويتها، توفي عام 1116 ه/ 1704م. ونبغ من هذه الأسرة الطبيب عبد الوهاب ابن الطبيب أحمد بن الطبيب محمد أدراق المتوفى عام 1159 ه/ 1746م. له تآليف منها كتاب التعليق على النزهة للشيخ داود الأنطاكي، وتذييل على أرجوزة ابن سينا في الطب، وأرجوزة في حب الإفرنج، وهو المرض المعروف بالنوار، وقصيدة في فوائد النعناع، وكتاب هز السمهري على من نفى عيب الجذري[5]. ونذكر طبيباً من أنبغ تلاميذ الشيخ أحمد بن محمد أدراق هو أبو محمد عبد القادر بن العربي المنبهي المعروف بابن شقرون المكناسي، امتاز ببراعته في علم الطب، وبفاس تلقى على الطبيب أحمد بن محمد أدراق، ووصفه الأديب محمد بن الطيب العلمي في كتابه الأنيس المطرب، أنه ركب الأدوية، وانتشرت له بين الحكماء ألوية، وعرف الأمراض، وأرسل سهام الرقى فأصاب الأغراض من مؤلفاته في علم الطب كتاب سماه النفحة الوردية في العشبة الهندية.. قال عبد الله كَنون: "وتأليفه هذا يدل على طول باعه في مهنته ومعرفته بعلم النبات وخصائصه، لأنه بحث يكاد يكون مبتكراً وناسجاً على غير منوال سابق"؛ ومن تآليفه أيضاً منظومته الطبية المسماة ب الشقرونية، تقع هذه الأرجوزة في نحو 700 بيت نظمها جواباً لسؤال من تلميذه الشيخ صالح بن المعطي. ومضمنها شرح فوائد المآكل والمشارب المتداولة بين الناس؛ وألف نظماً آخر في منافع النعناع معروفاً ومشهوراً، وكتاباً في منافع الأطعمة والأشربة والعقاقير[6] كما ألف أحمد بن محمد بن حمدون بن الحاج الفاسي المتوفى سنة 1899 م كتاباً أسماه "الدرر الطبية المهداة للحضرة الحسنية"، وهو كتاب جامع في الطب مقسم إلى ثلاثة أقسام مع مقدمة عن تاريخ الطب والصيدلة وأسماء المشاهير من الأطباء ومؤلفاتهم[7]. وألف عبد الله بن عبد العزيز القرشي المراكشي المشهور بسيدي بلة بن عزوز المتوفى عام 1789 م كتاباً سماه "ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطب والطبائع والحكمة"، وهو كتاب في علم الطبيعة والطب والصيدلة،اختصره المؤلف من عدة كتب[8]، وقد استنتج لوكلير من نقول هذا المؤلف وجود مصنفات عديدة في الطب العربي بالمغرب، ولقيمته العلمية عمد إلى ترجمته إلى اللغة الفرنسية[9]. وألف محمد بن إبراهيم الروداني من رجال القرن التاسع عشر كتاباً سماه كنز المحتاج في علم الطب والعلاج، رتبه على تسعة أبواب تتناول علاج مختلف الأمراض وما يناسبها من الأدوية، وختم كتابه بالحديث عن تدبير الصحة وما يحفظها من التزام عادات في الأكل والشرب والنوم والرياضة والسياحة وما إليها. ومن المنظومات علامة السعادة في حكم الأغذية المعتادة لعلي بن حسن القيسي المراكشي، وهي منظومة تبحث في طبائع الأغذية وأصنافها من حبوب وخضر وقطاني وفاكهة طرية وجافة ولحوم وتوابل وألبان ومشتقاتها ومياه معدنية وخمور ومربيات، بلغ عدد الأغذية والأشربة الموصوفة في تلك المنظومة 202 نوعاً[10]. ومن المؤلفات التي تخلط بين الطب والسحر خلال هذا العصر كتاب محمد أَحْنِنِي الدرعي راحة الإنسان في طب الأبدان، وهي رسالة قسمها المؤلف إلى أربعة وعشرين باباً، منها ما يتناول موضوعات طبية، ومنها ما يتناول الطلاسم والأحجبة وما شابه ذلك، وقبله عبد الله عزوز المراكشي المعروف بسيدي بلة صاحب ذهاب الكسوف الذي قام لوكلير بترجمته إلى الفرنسية، إلا أن له مؤلف آخر اسمه "بحر الوقوف على أسرار الحروف"، وكتاب "حل المعقود وعقد المحلول"[11]. يتبع في العدد المقبل.. ——————————————– 1. ابن عيشون الشراط، ص 304.. 2. راجع في الموضوع : الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية، دراسة ونصوص وتراجم ، تأليف وتحقيق محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1988 ( جزآن). 3. الطب والأطباء بالمغرب.. م.س، ص: 58، 82، 84. 4. عبد الوهاب بنمنصور، أعلام المغرب، ج: 6، ص، 123. 5. عبد الله كنون، النبوغ المغربي، ص: 300. 6. عبد الله كَنون، جريدة الميثاق، عدد: 229-230. 7. محمد العربي الخطابي، فهارس الخزانة الملكية، ص: 99. 8. محمد العربي الخطابي، المرجع نفسه. 9. نقلا عن الطب والأطباء، م.س. ص: 91. 10. نفس المرجع. ص: 204. 11. أنظر ترجمته في الأعلام للزركلي ج: 4، ص: 69، وفي النبوغ المغربي لعبد الله كنون ج: 1، ص: 310، وفي السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية لابن المؤقت ص: 46.