المعروف تاريخيا أن ازدهار الطب بالمغرب خلال فترة قوة الدولة السعدية تحقق بفعل تضافر مجموعة من العناصر الذاتية والموضوعية في إطار جدلية ثلاثية الأبعاد تشكلت عناصرها من: الطبيعة والعلوم والسلطة السياسية. فبإتقان معطيات الطبيعة المغربية وفق قوانين علوم ذلك العصر، وبنبوغ ثلة من أفذاذ العلماء ذوي النباهة والإتقان والقصد في العمل، وبدعم غير مشروط لسلطة سياسية واعية بواجباتها العمرانية والأخلاقية تحقق ازدهار في مجالات عدة أهمها الطب وفروعه.. لكن هذا الازدهار سرعان ما عرف نقصانا وفتورا بعد اضمحلال الدولة وضعف الاهتمام بالبحث العلمي كمؤسسة وفقر التعاطي لعلوم الكون… بعد ظهور العلويين واستقرار الدولة بشكل عام، بدأت بوادر العودة إلى التألق المغربي في صناعة الطب تظهر، إذ خلال العصر العلوي عرف التدريس الطبي بجامعة القرويين بعض الازدهار، وقد كان للتراث الأندلسي الطبي[1] دور أساسي في المعرفة الطبية لدى علماء جامعة القرويين؛ وفي حضور مؤلفات ابن رشد وابن طفيل وابن باجة وابن الخطيب والشقوري وغيرهم تأثير كبير في ذلك.. وهو ما يبرز نوعا من التجديد في المعرفة الطبية اعتمادا على تراث مغربي أندلسي غني وخلاق.. والغالب أن جامعة القرويين أصبحت، بعد انهيار الأندلس، الراعية للتراث الأندلسي في محاولة للمحافظة على إشعاعه واستمراره، كما عرفت جامعة القرويين بكثرة التأليف الطبية، وذلك من خلال تذييل العلماء لأرجوزة ابن سينا كمحمد بن قاسم بن زاكور، وأدراق، وابن عزرون[2]، وكذلك من خلال نقد كتابي الأنطاكي: تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب، والنزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة.. لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أسرة أدراق التي كان منها الأطباء محمد وابنه عبد الوهاب وقريبه أحمد طبيب السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي دخل طنجة في عهد احتلالها من طرف الانجليز بقصد ملاقاة الأطباء المسيحيين ورؤية الشخص الذي صوروه لتعليم التشريح معاينة، وهذه مسألة لا بد من استحضار أبعادها العلمية والنفسية والرمزية في زمن ضعف فيه علم التشريح المغربي، والطبيب أحمد بن محمد طبيب السلطان مولاي إسماعيل[3] وكان الطبيب أحمد المختص بالسلطان مولاي إسماعيل ذا وجاهة وبروز بين أقرانه حظي عند السلطان لخبرته بالأمراض ومعرفته بأدويتها. توفي عام 1116 ه/ 1704 م. ونبغ من هذه الأسرة الطبيب عبد الوهاب ابن الطبيب أحمد بن الطبيب محمد أدراق المتوفى عام 1159 ه/ 1746 م. له تآليف منها كتاب "التعليق على النزهة" للشيخ داود الأنطاكي، و"تذييل على أرجوزة ابن سينا في الطب" و"أرجوزة في حب الإفرنج"، وهو المرض المعروف بالنوار، وقصيدة في فوائد النعناع[1] وكتاب "هز السمهري على من نفى عيب الجذري"[5]، ونذكر طبيباً من أنبغ تلاميذ الشيخ أحمد بن محمد أدراق هو أبو محمد عبد القادر بن العربي المنبهي المعروف بابن شقرون المكناسي، امتاز ببراعته في علم الطب، وبفاس تلقى على الطبيب أحمد بن محمد أدراق، ووصفه الأديب محمد بن الطيب العلمي في كتابه "الأنيس المطرب"، أنه ركب الأدوية، وانتشرت له بين الحكماء ألوية، وعرف الأمراض، وأرسل سهام الرقى فأصاب الأغراض": من مؤلفاته في علم الطب كتاب سماه "النفحة الوردية في العشبة الهندية".. قال عبد الله كَنون: "وتأليفه هذا يدل على طول باعه في مهنته ومعرفته بعلم النبات وخصائصه، لأنه بحث يكاد يكون مبتكراً وناسجاً على غير منوال سابق"؛ ومن تآليفه أيضاً منظومته الطبية المسماة ب"الشقرونية"، تقع هذه الأرجوزة في نحو 700 بيت نظمها جواباً لسؤال من تلميذه الشيخ صالح بن المعطي. ومضمنها شرح فوائد المآكل والمشارب المتداولة بين الناس؛ وألف نظماً آخر في منافع النعناع معروفاً ومشهوراً، وكتاباً في منافع الأطعمة والأشربة والعقاقير[6] كما ألف أحمد بن محمد بن حمدون بن الحاج الفاسي المتوفى سنة 1899 م كتاباً أسماه "الدرر الطبية المهداة للحضرة الحسنية"، وهو كتاب جامع في الطب مقسم إلى ثلاثة أقسام مع مقدمة عن تاريخ الطب والصيدلة وأسماء المشاهير من الأطباء ومؤلفاتهم[7]. ومن المنظومات "علامة السعادة في حكم الأغذية المعتادة" لعلي بن حسن القيسي المراكشي، وهي منظومة تبحث في طبائع الأغذية وأصنافها من حبوب وخضر وقطاني وفاكهة طرية وجافة ولحوم وتوابل وألبان ومشتقاتها ومياه معدنية وخمور ومربيات، بلغ عدد الأغذية والأشربة الموصوفة في تلك المنظومة 202 نوعاً[8]. وألف محمد بن إبراهيم الروداني من رجال القرن التاسع عشر كتاباً سماه "كنز المحتاج في علم الطب والعلاج"، رتبه على تسعة أبواب تتناول علاج مختلف الأمراض وما يناسبها من الأدوية، وختم كتابه بالحديث عن تدبير الصحة وما يحفظها من التزام عادات في الأكل والشرب والنوم والرياضة والسياحة وما إليها… وألف عبد الله بن عبد العزيز القرشي المراكشي المعروف بسيدي بلة بن عزوز المتوفى عام 1789 م كتاباً سماه "ذهاب الكسوف ونفي الظلمة في علم الطب والطبائع والحكمة"، وهو كتاب في علم الطبيعة والطب والصيدلة، اختصره المؤلف من عدة كتب[9]، وقد استنتج لوكلير من نقول هذا المؤلف وجود مصنفات عديدة في الطب العربي بالمغرب، ولقيمته العلمية عمد إلى ترجمته إلى اللغة الفرنسية[10]. يتبع في العدد المقبل بحول الله.. ———————————— 1. راجع في الموضوع: الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية، دراسة ونصوص وتراجم ، تأليف وتحقيق محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1988 ( جزآن). 2. الطب والأطباء بالمغرب... م.س، ص: 58، 82،84. 3. عبد الوهاب بنمنصور، أعلام المغرب، ج: 6، ص. 123. 4. عبد الهادي التازي في جامع القرويين. 5. عبد الله كنون: النبوغ المغربي، ص: 300.. 6. عبد الله كَنون: الميثاق، عدد 229- 230. 7. محمد العربي الخطابي، فهارس الخزانة الملكية، ص: 99. 8. نفس المرجع. ص: 204. 9. محمد العربي الخطابي. المرجع نفسه. 10. نقلا عن الطب والأطباء، م.س. ص: 91.