المصالح المرسلة إن الناظر في فقه الإمام مالك يجده مبنيا في كثير من مسائله على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على بعض القضايا التي اعتمد فيها مالك على المصالح المرسلة، وكيف أنه فتح بابا عظيما للاجتهاد وعدم التشديد على الناس فيما يخص مصالحهم التي جاءت قواعد الشريعة وكلياتها على مراعاتها. ومن أمثلة اعتماده على المصالح المرسلة والعمل بها في القضايا العامة والحساسة من أمور الدولة وشؤون الحكم "تجويزه بيعة المفضول مع وجود الأفضل؛ لأنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح فالمصلحة في الترك، إذ هو في هذه الحالة المناسب لمقصود الشارع؛ لأن الاجتهاد روعي في الإمامة تحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، والمقصود الأساسي من الإمام تطفئة الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يصح في ميزان العقل السليم إثارة الفتنة وتشويش النظام وتفويت أصل المصلحة في الحال التي هي مطلب الشارع الأساسي تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد؟"[1]. من هذا النظر الدقيق نرى أن الإمام مالك يرى بمنظور المصلحة العامة للناس، لذلك نجده لم يستجب لطلب العمري لخلع أبي جعفر العباسي لما قال له: "يا أبا عبد الله بايعني أهل الحرمين وأنت ترى سيرة أبي جعفر فما ترى؟ فقال له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا؟ فقال العمري: لا أدري، قال مالك: لكني أنا أدري، إنما كانت البيعة ليزيد بعده فخاف عمر إن ولي رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بد من القيام فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح"[2]. والمثال الثاني ما ورد في العتبية أنه: "سُئل مالك عن الأفنية التي تكون في الطريق يكريها أهلها، أَتَرى ذلك لهم وهي طرق المسلمين؟ قال: إذا كان فناء ضيقا إذا وُضع فيه شيء أضر ذلك بالمسلمين في طريقهم فلا أرى أن يُمَّكَّن أحد من الانتفاع به وأنْ يُمنعوا، وأما كل فناء إن انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في طريقهم شيئا لسعته لم أر بذلك بأسا – قال – وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، فإذا وضع في طريق المسلمين ما يضيق عليهم به فقد أضر بهم"[3]. فقد نبه الإمام مالك في هذه المسألة على مجموعة من الأمور منها أن ما يستجد من أمور الناس وليس في الشريعة نص يحكم بها نعود إلى الأصول العامة، وقواعد الشريعة، ومن هذا المنطلق استدل مالك بالحديث النبوي الشريف العام في بابه، في مراعاة مصالح الناس، وذلك بعدم إيقاع الضرر وعدم الإضرار بمصالح الناس، كما رجح مالك المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في حالة التعارض بين المصلحتين، وهذا يدل على أنه يعتمد المصالح وفق الشروط والضوابط لا كما يتوهم البعض. والمثال الثالث هو جواز تهديد وسجن المتهم بالسرقة، ففي المدونة: "قلتُ: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل أنه سرق منه ولا بينة له فقال: استحلفه لي، أيستحلفه له في قول مالك؟ قال: إن كان المدعى عليه متهما بذلك موصوفا به استحلفه وامتحن وهدد، وإن كان على غير ذلك لم يعرض له ولم يصنع به من ذلك شيء"[4]. ففي هذا المثال تهديد المتهم المشهور بالسرقة ليقر بالأفعال المنسوبة إليه، ويُسترد منه ما كان في حيازته من حق الغير. هنا قد تثار مسألة هامة وهي أن الأصل في الإنسان البراءة، وقد يكون المتهم بريئا، وفي ذلك إخلال بالقاعدة وبمصالح الناس. وقد أجاب علماء المذهب عن هذا الإشكال بقولهم: "بأن العقوبة في الغالب لا تصادف البريء، فإن أصابته فتغتفر في جانب المصلحة العامة، كما يغتفر ذلك في تضمين الصناع الذين اتفق الصحابة على تضمينهم عند ادعاء التلف، مع أن الصانع قد يكون بريئا، ولكن نظرا للمصلحة العامة حكموا بتضمينهم، والمتهم هذا كذلك[5]. هذه الأمثلة وغيرها شاهدة على مدى الفقه الدقيق للإمام مالك، في مراعاته لمصالح الناس وأمنهم واستقرارهم، على ضوء المقاصد العامة للشريعة وكلياتها العامة.. يتبع في العدد المقبل.. ———————————————————– 1. الاعتصام، 2/362/363. 2. ترتيب المدارك، 1/169-170. 3. البيان والتحصيل، 17/409. 4. المدونة الكبرى، 4/426. 5. ينظر الاعتصام، 2/357.