تناولت في الحلقة الماضية كلا من: المصالح المعتبرة، والمصالح الملغاة ... وبقي النوع الثالث، وهو المسمى ب«المصالح المرسلة». والمصالح المرسلة هي كل مصلحة سكت الشرع عن حكمها، أي لم ينص عليها بعينها، لا بالاعتبار ولا بالإلغاء. فهي قد بقيت مرسلة؛ أي خالية عن أي حكم شرعي يقيدها. فما حكم هذا النوع من المصالح المسكوت عنها في الشرع؟ هل تُلحق بالمصالح المعتبرة لكونها مصالحَ، والشرعُ لم يبطلها؟ أم تلحق بالمصالح الملغاة ما دام الشرع لم ينص على اعتبارها؟ أم أنها متروكة لاختيار الناس، وليس للشرع فيها أمر ولا نهي؟ الصواب الذي عليه إجماع الصحابة، وعليه جماهير الفقهاء في كل العصور، هو أن كل مصلحة مرسلة، إذا كانت مصلحة حقيقية، فموقف الشرع منها هو أنها مصلحة معتبرة ضمنيا، وإن لم تكن معتبرة إسميا؛ بمعنى أنها معتبرة بمقتضى النصوص العامة للشريعة ومضمنة في مقاصدها العامة كذلك. فهي معتبرة ومنصوص عليها جملة وإن لم تُذكر تسمية وتفصيلا. ولتوضيح ذلك بأمثلته أحيل إلى التأصيل الرائد الذي حرره الإمام الشاطبي في هذه القضية. فقد ذكر رحمه الله أن كل مصلحة لم يَرد فيها نص، إذا كانت ملائمة لمقاصد الشارع، ومن جنس المصالح التي اعتبرها، فهي معتبرة ومطلوبة شرعا. وقد ذكر لها عشرة أمثلة، مما عمل به الصحابة والفقهاء، بحيث راعوا المصلحة وبنوا عليها، وإن لم يكن فيها بعينها نص شرعي. من هذه الأمثلة: 1. أن الصحابة بادروا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمع القرآن الكريم في مصحف واحد موحد متفق عليه، وذلك بعد أن ظهرت بعض الاختلافات هنا وهناك في قراءة بعض الآيات والألفاظ القرآنية. قال الشاطبي: «ولم يرِدْ نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعا، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والأمرُ بحفظها معلوم وإلى منعِ الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد عُلم النهيُ عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه.» 2. اتفاق الصحابة على رفع عقوبة شارب الخمر إلى ثمانين جلدة. قال الشاطبي: «وإنما مستندهم فيه الرجوعُ إلى المصالح والتمسكُ بالاستدلال المرسل. قال العلماء: لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد مقدَّر، وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزيز. ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضى الله عنه قرره على طريق النظر بأربعين. ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس، فجَمع الصحابةَ رضى الله عنهم فاستشارهم، فقال علي رضي الله عنه: من سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه حد المفتري» 3. قرر الخلفاء الراشدون العمل بتضمين الصُّنَّاع (الحِرفيين) لما يضيع ويتلف بأيديهم من مواد تكلفوا بتصنيعها لأصحابها، وذلك بغض النظر عن صدقهم أو كذبهم، وعن مدى مسؤوليتهم الفعلية في ضياعها. قال الشاطبي: «ووجْهُ المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال. والأغلب عليهم (أي الصناع) التفريطُ وترك الحفظ. فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية وذلك شاق على الخلق وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحةُ التضمين» (انظر: الاعتصام2/117 وما بعدها).