ماهية التوازن تتلخص في أن تجتمع الميادين الثلاثة الشخصية والاجتماعية والسياسية في حياة الإنسان بقناعة ومحبة ورضا، ودون إكراه ولا تصنع ولا نفاق، بحيث تشكل للإنسان حياة متطابقة ومتوافقة، فلا تختلف قناعاته الشخصية عن قناعات المجتمع الذي يعيش فيه وقيمه، ولا تختلف قناعاته الشخصية مع قوانين الدولة التي يحمل هويتها الوطنية ويخضع لدستورها؛ لأنه في كلتا الحالتين يعيش في حالة عدم استقرار وقلق، والإسلام يبني الإنسان المسلم والمجتمع المسلم والدولة المسلمة في حياة واحدة وانسجام تام، بحيث يكون الفرد مقتنعاً فكرياً بدينه، وملتزماً أخلاقياً بقيمه، ومفتخراً بتاريخه، ومحباً لمجتمعه، ومتعاوناً في اقتصاده، وقانونياً في دولته، وفي هذه الحياة تلتقي الحقوق والواجبات في تبادل لا يفرق بينهما. فإذا وجد المسلم نفسه، يعيش في مجتمع غير إسلامي، ولا دولة إسلامية؛ فإنه أمام خيار الهجرة منه، أو التعايش معه دون أن يذوب فيه، وهذه حالات نادرة قد تحصل عندما يسافر المسلم إلى دولة لا يوجد فيها مسلمين ولا أقلية مسلمة، فيكون ميدانه الأول الفردي غير منسجم مع الميدان الاجتماعي الثاني، ولا الميدان السياسي الثالث، ولذا فإنه لا يستقر في هذه المجتمع كثيراً، إذا طلب القناعة العقلية والطمأنينة القلبية والنجاة الدينية الأخروية. وقد يجد المسلم نفسه في مجتمع مسلم ولكنه في دولة غير إسلامية، مثل العيش في التجمعات الإسلامية في المدن الغربية والأمريكية أو غيرها، فالمسلم في هذه الحالة في توازن ذاتي وتوازن اجتماعي ولكنه غير مشارك في هذه الدولة إلا في الميدان الاجتماعي، وفي حرج كبير للمشاركة في الميدان السياسي، ولذا فإن الانسجام والطمأنينة عنده تكون مضطربة وغير مستقرة، لأن الحياة الفردية والاجتماعية لم تكتمل بالميدان السياسي. إن من أكثر أسباب ضياع الحقوق بين الناس هو في شعور الإنسان أنه غير مستقر في شخصيته الفردية أولاً، ثم أنه غير منسجم مع مجتمعه ثانياً، وأخيراً غير مشارك في الحياة السياسية في الدولة التي يخضع لقانونها ودستورها، ولكي يعيد الاستقرار إلى نفسه، ينبغي أن يعمل لبناء نفسه إنساناً مثقفاً، وأن يعمل بكل جد للانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وذلك بإدراكه أن المجتمع ليس مجموعة أفراد فقط، وإنما مجموعة من الناس، ومجموعة من الرؤى، ومجموعة من الأفكار، ومجموعة من القيم الأخلاقية، ومجموعة من العلاقات الاجتماعية ومجموعة من الأسس الاقتصادية، ومجموعة من القوى السياسية خارج السلطة، أي أنه مجموعة من الناس، ومجموعة من القيم والعلاقات. ويمكن لهؤلاء الناس أن يقيموا مجتمعاً مثقفاً ومنظماً فيما بينهم، هذا المجتمع يطلق عليه البعض مجتمعاً مدنياً، فالمجتمع المدني هو النوادي والجمعيات غير الحكومية التي تضم إليها الأفراد الطوعية التي تشكل عين المجتمع الفاحصة[1]، ولكن قد يرى بعض المسلمين أن مفهوم المجتمع المدني مفهوماً حداتيا وليس مفهوماً إسلامياً، ولكن نفس المفهوم ليس غريباً عن المفاهيم الإسلامية الاجتماعية، فالأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني هو الحرية، حرية التعبير وحرية الدين وحرية العقيدة، وحرية التعاون بين أفراد المجتمع في صنع جمعيات ومؤسسات تعمل للحفاظ على تطبيق بعض الأحكام الشرعية وتهدف إلى تامين مقاصد الشريعة في حياة الناس، بمعنى تأمين حقوق الإنسان، عن طريق مؤسسات المجتمع المدني.. —————————————————————– 1. منهجية الحكم وأثرها في حقوق الإنسان، الدكتور عبدلله الكيلاني، بحث مقدم لمؤتمر: حقوق الإنسان في الشريعة والقانون (التحديات والحلول)، جامعة الزرقاء، مصدر سابق، ص: 979.