"كونوا أنتم التغيير نفسه الذي تريدون مشاهدته في العالم" المهاتما غاندي أعددنا هذا الكتاب انطلاقا من الوعي التام بالعلاقة المعقدة بين الأزمة الاجتماعية والأزمة الإيكولوجية والأزمة الديمقراطية. إن انبثاق حركات اجتماعية – إيكولوجية واضحة الأهداف، يوقظ الأمل في مواجهة أسس نموذج لا يعد إلا بتدمير أكثر قوة للنظام الإيكولوجي. تدمير الطبيعة والبشر. هذا الأمل لا يمكن أن ينتشر ويتقوى إلا بالتزام سياسي في مستوى الرهانات المطروحة. من أجل ربح رهان الخروج من أزمة البشرية الحضارية والانطلاق نحو المستقبل. عقدة هذه الأزمة توجد في العلاقة بين البشر والطبيعة، والعلاقة فيما بين البشر أنفسهم. وهي عقدة عميقة وبنيوية: عقدة التغذية/الصحة، وعقدة الطاقة/المناخ، وعقدة الإستغلال/الإنصاف، وعقدة الاستبداد/الحرية. لا يمكن للنموذج التنموي النيوليبرالي أن يوفر نظاما متحملا للبشرية وكوكب الأرض، فليس هناك من بديل سوى النموذج الإيكولوجي. وهو ما يسميه "ألان ليبييز" العهد الأخضر، مستوحيا نموذج العهد الجديد لروزفيلت بعد الحرب العالمية الثانية. يحدث "العهد الأخضر" حسب رأي "ألان ليبييز" تغييرات مذهلة بالمقارنة مع النموذج الليبرالي-الإنتاجوي. لا يمكن الرجوع إلى الفوردية القديمة ولا إلى الدولة الراعية، بالمفهوم المنحصر فقط في إعادة توزيع القدرة الشرائية. أصبح الطابع الحاسم اليوم لأي نظام مستقبلي هو التحمل الإيكولوجي، واستفادة البشرية بشكل منصف من ثروات الكون واحترام حقوق الانسان في كل أبعادها الكونية والشمولية والمشاركة الواسعة في اتخاذ القرارات عن طريق الديمقراطية التشاركية. يؤكد "ألان ليبييز" بأن "العهد الأخضر" سيكون خاضعا لتوافقات وخططا للمستقبل، وهي الخطط التي لا علاقة لها بالماضي. إنها مخططات في نفس الوقت اجتماعية وإيكولوجية. "ليس لنا ما نفقده سوى خوفنا" كما قال روزفيلت بالنسبة "للعهد الجديد" غداة الحرب العالمية الثانية. فما علينا إلا الغوص في تجربة "العهد الأخضر" ونحن متأكدون بأننا سنتعرض للمقاومة من طرف أصحاب المصالح والمتشككين من النجاح، والمتخوفين. علينا استثمار كل الآليات الديمقراطية لإنجاح الخيار الأخضر لتغيير نموذج التنمية الذي يعيش أزمته الخانقة مهددا حياة البشر والطبيعة. إنها ليست فقط معركة علمية ولكنها أساسا، سياسية واجتماعية وثقافية وفلسفية من أجل الحياة أفضل، إنها معركة اكتساب الثقة بإمكانية التغيير والقدرة على التغيير، بشكل جماعي عن طريق التعاون من أجل مصلحة البشرية. "إنها أحلام كبيرة جدا بالقدر الذي لا يمكن أن تغيب عن نظرنا" كما يقول بيان حركة إيتوبيا(1). أصبح اليوم الجميع يشعر، بنوع من الوعي يزيد أو يقل، بأن الإقتصاد لا يمكن أن يستمر كما كان سابقا، وبأن الكرة الأرضية لا يمكن أن تتحمل لوقت طويل الإستغلال اللا متوازن للموارد واللامساواة في التوزيع وإهدار حياة الملايين بالفاقة والجوع والحروب وانتهاكات حقوق الانسان على كافة المستويات. إننا نعيش انهيار النموذج الليبرالي وفي نفس الوقت الإشارات الأولى لانهيار الخدمات الإيكولوجية التي تقدمها لنا الطبيعة بسخاء وبالمجان. لم يسبق للإيكولوجيين أن كانوا مطلوبين كما هو الحال الآن في المجال الإقتصادي والسياسي والإنساني. الإيكولوجيا والإقتصاد، إلى حدود الأمس القريب كان لهما توجهات متعارضة، أو على الأقل يتجاهلان فيما بينهما. لقد تغير الزمن، وتطور التاريخ بسرعة فائقة. أصبحت الإيكولوجيا مطلوبة الآن، على المدى القريب. إنها __________________________________________________ (1) Manifeste UTOPIA- Les Editions Utopia, Janvier 2012- Paris الطريقة المثلى للحفاظ على شغلنا ومستوى لائق للحياة في المستقبل. الإيكولوجيا هي الحل الوحيد، على ما يبدو، للأزمات التي تواجهنا بحيث توفر إمكانيات إنعاش الإقتصاد بخلق الشغل بشكل واسع، وتشكل بديلا لنموذج التنمية الذي أوصلنا إلى أكبر أزمة إيكولوجية لم يسبق للإنسان أن عرف مثلها. إنها تشكل قطيعة جذرية مع "الليبرالية- الإنتاجوية" وتقترح مسارات ملموسة للتغيير الإجتماعي وحفظ كرامة الإنسان. الإقتصاد الأخضر يمثل نموذجا لهذا التعاون بين الإقتصاد والإيكولوجيا، بالإستناد على الأبحاث العلمية ودراسات الخبراء، لكن الأمر يتطلب الحذر من القوى المالية وأصحاب القرارات الكونية للإنحراف بالأهداف وإدامة الفقر واستباحة ثروات العالم، وفي هذا المجال تطرح إشكالية العلاقة بين العلم والسياسة، والفئات التي في مصلحتها التغيير نحو وضع إيكولوجي متوازن، منصف اجتماعيا، يسود فيه احترام حقوق الإنسان والكرامة والمساواة والسلم. كلما أعلنت "المجموعة مابين الحكومية حول تطور البيئة" تقريرها السنوي، إلا وتجدد النقاش حول العلاقة بين العلم والسياسة، فغالبا لا يكون في مصلحة أصحاب القرار اكتشاف الجمهور الواسع نتائج تلك التقارير التي تدق ناقوس الخطر وتجعل النموذج التنموي السائد موضع التساؤل، لذلك يضغطون على الخبراء للتقليل من قوة التقارير، ويعملون على إرجاع ذلك في عداد الرأي بتقديمهم مرتشون يصرحون بما يعاكس نتائج التقارير، أو يصرحون بما يبرء النموذج الإنتاجوي الإستهلاكي النيو-ليبرالي من مسؤوليته عن التغيرات المناخية. هذا التغيير في الأدوار ليس من مهام العلماء والخبراء، مما يحيي الجدل المستمر بين العلم والسياسة. علينا أن نتعامل مع هذا التفاعل بشكل إيجابي يفيد المقهورين ضد استبداد المتحكمين في رقاب البشرية: فالمعرفة تغير مجال السياسة، وبالمقابل فإن المعرفة تتشكل في الإجابة على الأسئلة التي تثيرها حاجيات الناس. لكن يجب حماية المؤسسة العلمية وقواعدها في العمل. يجب أن تشارك المجموعة العلمية المجتمع في تشككاتها وتساؤلاتها ولا يقينياتها، وعلى المجتمع أن يجد المساطر الملائمة للإختيار وهو في كامل المعرفة على أسس الحرية والديمقراطية. لقد أصبحت الوسائل العلمية للبحث والملاحظة والتتبع متوفرة بشكل متطور ومنتشرة في مختلف بقاع العالم لكي تؤكد لنا بأن التغيرات المناخية ليست تحولات محتملة في المستقبل ولكنها حاضرة اليوم بتأثيراتها الواضحة على الأنظمة الإيكولوجية وبتأثيراتها على الحياة بشكل عام، مما يستدعي نقاش واسع مستندا على العلم لاتخاذ القرارات القانونية والسياسية الملائمة دون محاولة إلى تصنيف هذه النتائج العلمية في عداد الرأي. يدعونا الصراع حول نموذج التنمية الملائم لحفظ التوازن الإيكولوجي ومجموع الأنظمة الإيكولوجية، والإنصاف الإجتماعي وحماية حقوق الإنسان والمساواة والحرية والكرامة، إلى حماية نتائج الأبحات والدراسات العلمية، والإستناد على العلم في المقاربات والتخطيط للسياسة. فلا سياسة بدون علم، فالعلاقة بين العلم والسياسة، وإن كانت قديمة قدم المجتمع البشري، إلا أنها أصبحت في عصر الثورة التكنلوجية والإعلاميائية ذات أهمية قصوى يتحدد عليها مصير البشرية. هذا ما يجعل اللوبيات المصالحية في العالم تتحكم في المعلومة، وتسعى إلى مراقبة كل مراكز البحث العلمي وكل وسائل الإعلام. إنها معركة مصيرية في مواجهة هيمنة الرأسمال النيو-ليبرالي وحروبه اليومية ضد البشرية بأشكال مختلفة، من الحروب العسكرية إلى حروب السوق وحروب القروض التي تكبل الدول والأفراد في نفس الوقت. إن مجال الدراسات الخاصة بالعلاقات بين العلم والسياسة وفيرة جدا، يمكن التمييز فيها بين ثلاث إشكاليات أساسية : 1- الإشكالية الأولى، خاصة بالتفكير في الشروط والإطارات السياسية، التي تمكن أو تحول أو تؤثر على العمل أو البحث العلميين. فوضع سياسي ينعم بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ينعم فيه الخبراء والعلماء بهامش ملائم لإنجاز عملهم ونشره وتصريفه في الإعلام، وهو وضع مخالف تماما حين يسود الإستبداد واستباحة حقوق المواطنين، فالخبراء والعلماء يعملون في وضع الإكراه تحت إمرة وتوجيهات موظفي الدولة، حيث يبقى لأجهزة الدولة المعنية وحدها حق التصرف في نتائج الأبحاث. 2- الإشكالية الثانية، هو أن العلاقات بين العلوم والسياسة تنتظم غالبا حول أعمال الحكومات لصالح العمل أو البحث العلمي أو فرع فقط من هذا العمل، ومادام البحث العلمي يتطلب مصاريف كبيرة فإن عمل الخبراء والعلماء يبقى رهينة القرار والإرادة السياسية للحكومات، الخاضعة هي الأخرى لتوازنات الرأسمال والسياسات الدولية. 3- الإشكالية الثالثة وخاصة في مجال الأبحاث السوسيولوجية تتعلق بالعلاقة بين العلم والسياسة عبر استثمار الحكومات أو أصحاب القرار فيما يوظفونه من أبحاث علمية للضبط والتوجيه. ويبدو أن المقاومة تنتظم وتتوسع من خلال مجموعة أعمال، تقترح حصيلة تاريخية لما تشكله من بناء نظري، بصفة عامة، منذ عقدين على الأقل، والتي تحاول خلق الإنسجام والتمفصل بين العلوم والمجتمع. ويشكل الإلتزام والانخراط السياسي والنضالي لبعض الباحثين الأعمدة الأساسية للجواب عن هذه الإشكالية التاريخية والسوسيولوجية. وقد أوضحنا بما يكفي من خلال فصول كتابنا هذا العلاقة المتفاعلة والحيوية بين العلم والسياسة في مجال الإيكولوجيا السياسية، ذلك أن الأمر يتعلق بنمط تفكير وفلسفة حياة ونظام اقتصادي وسياسي وعلاقات اجتماعية وثقافية أعمق بكثير من مجرد اهتمام بالبيئة وجمالية الطبيعة. إنها تفاعلات أضلع مثلث حيوي من أجل الرفاه والعيش أحسن بالنسبة للأجيال الحاضرة والمقبلة. لابد في اعتقادي من تجاوز النظرة الإختزالية للنضال الإيكولوجي، ذلك أن هذا النضال اجتماعي وسياسي بالدرجة الأولى باستناده إلى بعد البيئة كعنصر حاسم في حياة البشرية والذي تم إغفاله في مختلف المعادلات لسياسية، وحين شبهنا الإيكولوجيا السياسية بمثلث متوازي الأضلاع متفاعلة بشكل جدلي فيما بينها، فلكي نوضح حيوية المقاربة وجدتها في الممارسة السياسية اليسارية بالأساس. تتمثل البيئة في الضلع الأول، والعلاقات بين البشر بما فيها علاقات الإنتاج وكل الحياة الاجتماعية في الضلع الثاني، وتتمثل العلوم والتكنولوجيات والتقنيات الإنتاجية وغيرها في الضلع الثالث. من خلال التفاعل بين الأضلاع الثلاث نستطيع أن نبلور إجابات برنامجية للنضال اليساري على الصعيد المحلي والأممي، وبذلك نكون قد قطعنا أشواطا في تجديد التفكير اليساري الذي نادينا به ضمن مختلف فعاليات اليسار منذ ما يفوق عشرين سنة. لقد سبق لي أن طرحت عدة تساؤلات عن نمط تفكيرنا اليساري في كتابي السابق(2) في باب "تجديد الفكر السياسي"، وأعتقد أنني أتلمس حاليا جزء من الجواب من خلال مجهود البحث في "الإيكولوجيا السياسية"، ماذا قلت في كتابي سنة 1995 : "وليس سليما أن نستمر في اعتماد نفس سلاح النقد دون إخضاع هذا السلاح نفسه للنقد، لأن هناك أسئلة محرقة لابد أن نطرقها وأن ننزع عنها صفة المقدس (الطابو)، ولابد أن ننزع عن الماركسية صفة الإيديولوجية الرسمية التي أدخلتها إليها أنظمة "الإشتراكية المحققة"، لأنها بذلك تحولت إلى نوع من الدين تقارع كل محاولات الإجتهاد، فأدخلتها إلى واقع الجمود العقائدي. فتسبب ذلك في قمع كل محاولات الإجتهاد، وطالت التصفيات الجسدية كل المتنورين. فقمع حرية التفكير والإعتقاد والتعبير لصيقة بالتجارب "الإشتراكية المحققة". "...الأكيد أن عملية التغيير في الحلقات الضعيفة للرأسمالية أصبحت مطروحة من جديد على ___________________________________________________ (2) - عمر الزيدي : الديمقراطية بداية...الديمقراطية أساس...الديمقراطية أبدا... الإطار السياسي لمناضلي اليسار الجديد والتأسيس المعاق – منشورات البيادر المغربية – نونبر 1995 جدول الأعمال وبشكل أكثر تعقيدا من السابق. وجواب اللينينية الذي أغرانا لمدة طويلة من الزمن لم يعد قائما، وهذا باعتراف لينين نفسه. "فحين نقرأ نصوص فترة الثورة البلشفية نلاحظ أن لينين كان أول من وجد نفسه في حيرة قصوى. .....الرهان الخاسر هو السؤال الذي طرحه لينين على نفسه منذ سنة 1921 عندما تسائل : " من الذي سينتصر؟ الرأسمالية أم الإشتراكية؟ الجواب لا يقبل أدنى شك: الذي سينتصر ليس مرحلة الإنتقال الإشتراكية"(3) "...إننا نفتح باب عناوين عريضة للبحث والنقاش وتتبع اجتهادات الماركسيين عبر العالم حول العديد من الأمور، ليس أقلها: - مسألة الإقتصاد في النظام الإشتراكي ومن داخلها مسألة الملكية نفسها، هل للدولة(التأميم – القطاع العام) أم للشغالين (قطاع خاص من نوع جديد)؟ - مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان في النظام الاشتراكي. - دور العوامل الدينية في المجتمع. - دور الحزب في التغيير ووضعه في المجتمع الاشتراكي. .........." أبرز العمل الجاد والبحث المضني والتجارب الميدانية الملموسة أن "الإيكولوجيا السياسية" تشكل جوابا ملائما للأسئلة التي طرحتها في 1995، وتوفر أدوات للعمل الميداني والنضالي خدمة لمصلحة البشرية الآن ومستقبلا في إطار من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهو ما جعل مناضلين يساريين عالميين أمثال، "إيفان إيليتش" و"أندري غورز" و"كورنيالييس كاستودياريس" و"إدغار موران" يشجعون الإيكولوجيا السياسية وينادون بها: "الإيكولوجيا السياسية مكافحة، فهي تخرب حلم الرأسمال الذي يهيمن على الكوكب"، إنها تزكي قيمة الإنسان على السوق، وتعلي من قيمة الرفاه وليس الاستهلاك المفرط، السلم ضد كل أنواع الحروب، الحقوق والحريات والمساواة، إنه نضال كل خضر العالم من أجل حياة أحسن. عمر الزيدي
_____________________________________________ - جورج لابيكا – مجلة الطريق اللبنانية – يوليوز 1993.(3)