فالحق في الصحة يتجاوز توفير العلاجات وتيسير إمكانية الولوج إليها إلى كافة المجالات المرتبطة بالصحة في شموليتها. ولأن سعي المجتمعات لضمان هذا الحق وتجسيده فعليا يستدعي توفرها على تصورات واضحة ومنسجمة للصحة التي تريدها؛ وذلك ماسيتلزم وجود منظومات صحية تأخد بعين الإعتبار كافة المحددات والعوامل المؤثرة فيها (التربية، البيئة، التغذية، السكن اللائق...). فالمنظومة الصحية هي مجموع الوسائل (التنظيمية، البشرية، الهيكلية والمالية) التي توفرها كل دولة لضمان الحق في الصحة لمواطناتها ومواطنيها من خلال تنفيذ وأجرأة مختلف السياسات التي تعنى بهذا الحق، وتعتبر جزءا مهيكلا لنظامها الاقتصادي والإجتماعي. إن المنظومة الصحية الحالية لمغرب لمابعد الإستقلال، التي هي امتداد للمنظومة الصحية الموروثة عن الحقبة الكولونيالية - التي قطعت في ظل الإستمرارية مع الأنماط التقليدية الصحية للمجتمع المغربي-؛ قد ساهمت في تحسين مجموعة من المؤشرات، إلا أنها ورغم التطوير المتقطع الذي خضعت له عبر مراحل، ظلت عاجزة عن مواكبة كافة التحديات المتواثرة الناجمة عن المتغيرات الصحية (الديمغرافية والوبائية...) والمجتمعية المحلية وكذا المرتبطة بالأمن الصحي العالمي. نظرا لاقتصارها وبشكل عام على المفهوم الكلاسيكي الذي يختزل المنظومة الصحية في المنظومة العلاجية علما أن هذه الأخيرة تعد اللبنة الأساسية التي تنتج العلاجات وتؤطر الوقاية والمراقبة الصحية للمجتمع من خلال عدد من الإختصاصات التقنية والتدبيرية؛ ومن أجل أن تلعب المنظومة العلاجية بإشراف وزارة الصحة دورها المحوري داخل المنظومة الصحية يجب إعطائها كافة الصلاحيات لتأطير مختلف السياسات العمومية المرتبطة بالمجالات والقطاعات المتدخلة لتساهم في انسجام مجهودات الدولة في هذا الصدد. وذلك مايتطلب الإعتراف بخصوصية قطاع الصحة باعتبارها ضرورة مجتمعية لكونه يعني المجتمع برمته، يجب وضعه في مستوى القطاعات الحكومية الإستراتيجية للبلاد من حيث الاهتمام؛ وذلك ب: - إحداث مؤسسة وطنية عليا تعنى بتدقيق السياسة الصحية ورسم الإستراتيجيات الوطنية في المجال الصحي: 1- جعل قطاع الصحة هو المشرف على تدبير كافة أوجه السياسة الصحية والمسؤول الأول عن تنسيق وتكثيف مختلف السياسات القطاعية الأخرى المرتبطة بالمجال الصحي، من منطلق المفهوم الشمولي للصحة باعتبارها ليس فقط غياب المرض، في اتجاه التنمية البشرية المستدامة. كفلسفة تتوخى جعل قطاع الصحة مدخليا رئيسيا وضروريا لرفع تحديات المجتمع. 2- إشراف قطاع الصحة على كل ما هو اجتماعي من خلال التعاطي مع الطوارىء والحاجيات الناتجة عن الأوضاع الصحية للمواطنات والمواطنين بما فيهم ذوي الحاجات الخاصة والاعتناء بالشيخوخة...، وذلك بتوسيع مسؤولية ومهام هذا القطاع زيادة على وظيفته الجوهرية المباشرة التي هي محاربة الأمراض والوقاية منها، ليشرف أو على الأقل يساهم – ولو مرحليا - بفعالية كبيرة في كل مجالات التنمية البشرية بمفهومها الكوني. 3- تمكين قطاع الصحة من الاضطلاع بمهامه كاملة وبفعالية ومردودية عالية من خلال وضع إطار قانوني حديث لإعادة الاعتبار لهذا القطاع يترجم روح هذه الفلسفة الجديدة، يمكنه من آليات التفاعل مع الحاجيات الحقيقية والمتغيرة للمواطنات والمواطنين الصحية والاجتماعية، والإجابة في نفس الآن على الإشكالات المستجدة التي تعترض تطبيق السياسات الصحية: تحديد مجالات التدخل، تصنيف المتدخلين (أفراد ومؤسسات) ووظائفهم ومجالاتهم. وتوفر الإرادة الساسية الكفيلة بإعطاء قطاع الصحة الوسائل والإمكانات الضرورية للقيام بالمهام المنوطة به اعتبارا للمسؤوليات الكبيرة والحيوية المناطة به، المادية والبشرية والتنظيمية: 1- الوسائل المادية: - انطلاقا من أن مقولة " الصحة لا ثمن لها لكن لها تكلفة " فإن تمويل القطاع الصحي يستوجب من الدولة توفير الموارد المالية الكافية لضمان المساواة بين كافة المواطنات والمواطنين في الاستفادة من الخدمات الصحية، وجعل نسبة تمويل القطاع من ميزانية الدولة في مستوى المعايير الدولية. - إشراف ومشاركة القطاع فعليا على تدبير كافة المؤسسات والتعاضديات وغيرها... العامة والخاصة لما لها من دور حيوي في المساهمة في التمويل، في أفق توحيد التغطية الصحية وتعميمها. 2: البنيات والتجهيزات التحتية: البنيات التحية بقطاع الصحة هي مجمل المراكز الإستشفائية والمستشفيات المحلية والإقليمية والجهوية والمراكز الصحية الحضرية والقروية والمعاهد والمراكز الوطنية والجهوية الوقائية والإستشفائية بمختلف أنواعها...؛ وكذلك المؤسسات الصحية التي يجب أن تهتم بإتمام العلاجات والنقاهة والمراكز الاجتماعية الخاصة بالتأهيل الصحي ووسائل النقل الصحي... إلخ. هذه البنيات التي تستحق، المتوفرة منها، التحديث والرفع من عدد وحداتها وتجهيزها بالمعدات والوسائل والأطر الصحية الملائمة والكافية ووضعها في شبكة تستجيب لشروط الولوجية والفعالية والمردودية والتوزيع المجالي العادل، فضلا عن إحداث المراكز المتخصصة في إكمال العلاجات والتأهيل والادماج الاجتماعي وتأهيل وتحديث أسطول النقل الصحي وربط كافة مكونات القطاع بشبكة للاتصال الحديثة لتسهيل التواصل .. وتفعيل دورها في مباشرة المهام التي أحدثت من أجلها. 3- التدبير: وضع طرق حديثة لتسيير وتدبير القطاع الصحي لرفع من إنتاجيته وضمان فعاليته كقطاع اجتماعي منتج من خلال رفعه للمردودية الفردية والجماعية للمواطنات والمواطنين بحمايتهم من الأمراض وتقليص تكلفة علاجهم ومدد عجزهم عن الإنتاج والتقليل من التبعات السلبية لها على الإقتصاد الوطني؛ مع اعتماد الحكامة في التدبير (ولاحكامة دون محاربة الفساد). 4 - الموارد البشرية: - اعتبارا لكون الموارد البشرية في قطاع الصحة هي المعنية الرئيسية بإنجاح مختلف السياسات العمومية في المجال الصحي، فإن تعدد المهن الصحية وشروط الولوج إليها وكذلك طبيعة العمل وشروط مباشرته في هذا القطاع الحيوي تفرض إكراهات متعددة وخاصة: أ- المهن الصحية: رغم أن المنظومة العلاجية ارتبطت تاريخيا بمهن الطب والتمريض فإن التطور فرض بقوة تواجد مهن أخرى حتى تتظافر الجهود من أجل تقديم العلاجات كمنتوج نهائي لهذه المنظومة. ب- التكوين الأساسي: أن التكوين الجيد والعصري وبأعداد كافية هو الضمانة الوحيدة لجودة العلاجات والخدمات المرتبطة بها، وهو مايتطلب توفير تكوين أساسي وطني ومستقل ومتطور لمهني الصحة يستجيب للحاجيات الصحية الحقيقية للمجتمع، تستدعي توفير مؤسسات عليا متخصصة تتوفر لها القدرة الإستيعابية الكافية لتكوين الأطر الصحية بمختلف مهنها وتخصصاتها، مع تطوير البحث العلمي. ج- التكوين المستمر: إن التطور العلمي والحاجيات المتطورة للمجتمع تفرض على العاملين في القطاع بمختلف فئاتهم ومواقع عملهم تحيين كفاءتهم وتطويرها، لذلك فالتكوين المستمر لا يقل أهمية عن التكوين الأساسي حيث يجب سن سياسة لتكوين المستمر حقيقي يستجيب للمعايير الحديثة تطوير مؤهلات العاملين وبدالك الرفع من الجودة والإنتاجية للقطاع الصحي. د- طبيعة وشروط العمل: إن الطلب على العلاج غير مستقر ويفرض حالة مستمرة من التأهب والاستعداد للاستجابة للطلب الآني والمستعجل، وهي خاصية تطبع سير المرفق الصحي وتفرض على كافة المهنين العاملين في القطاع مجهودات كبيرة للتكيف مع مختلف الأوضاع التي تفرضها طبيعة العمل (العمل بالليل وأيام العطل والأعياد، العمل بمصالح المستعجلات والانعاش والمركبات الجراحية التي تتطلب التركيز والاستمرارية ومواجهة التوتر باستمرار... ). ه- تدبير الموارد البشرية: يعتبر تدبير الموارد البشرية أحد العلوم الحديثة الذي أصبحت الإدارة ملزمة باعتمادها لتوفير الشروط الملائمة لإنجاح سياساتها ب: - توفير الموارد البشرية الكافية والكفئة فقطاع الصحة بالمغرب لازال يعرف خصاصا مهولا في مختلف فئات العاملين في القطاع ( مايناهز 12000 ممرض(ة)، 9000 طبيب(ة) 3000 من الأطر الإدارية والتقنية الأخرى ). - توفير شروط العمل اللائق والحماية وتحسين الأوضاع المادية والمهنية العاملبن في القطاع والنهوض بأوضاعهم الإجتماعية بدءا بإخراج مؤسسة الأعمال الإجتماعية لموظفي وزارة الصحة وتمكينها من الموارد المالية التي تمكنها من أداء دورها. - وضع قانون أساسي خاص للمهن الصحية يَضمن بلورة قوانين متطورة العاملين في القطاع بمختلف فئاتهم (من أطباء وصيادلة وجراحي الأسنان وممرضين بكافة تخصصاتهم ومساعدين إداريين ومساعدين تقنيين ومتصرفين وتقنيين ومهندسين وحاملي للدكتوراه العلمية والدراسات العليا والمعمقة والمتخصصة والماستر– المساعدين الطبيين-...) ومواقع عملهم. - إعادة الإعتبار للأطر الصحية وإنصافها بما يضمن وقف نزيف هجرة الكفاءات. - تمتيع العاملين في قطاع الصحة بالأجر العادل وتشجيعها بوضع نظام تحفيزات ديمقراطي يأخد بعين الإعتبار طبيعة العمل (العمل الشاق، مواقع العمل الأكثر خطورة، الأماكن الصعبة ...). - مراعاة خصوصية النساء العاملات في قطاع الصحة باعتبارهن يشكلن مايناهز ثلثي العاملين في القطاع وتمكينهن من الولوج لمناصب المسؤولية وفق كفائاتهن. - تحديد سن التقاعد بالنسبة للعاملين في القطاع الصحة في 55 سنة، على غرار العاملين في قطاعات العمل المضني، والإهتمام بمتقاعدات ومتقاعدي القطاع والإستفادة من خبراتهم العلمية والمعرفية. - إحداث متحف يعنى بحفظ ذاكرة العاملين والمهن الصحية. إن مطالبة الجامعة الوطنية للصحة – إ م ش- بالإعتراف بخصوصية قطاع الصحة وإقرارها من خلال تدابير قانونية ومالية كفيلة بالنهوض بقطاع الصحة ليكون في مستوى حاجيات وتطلعات المواطنات والمواطنين في خدمة صحية ذات نوعية، ليس مطلبا نقابيا ولاحاجة قطاعية صرفة - كما يمكن أن يوحي به الإنطباع الأول- بل هو ضرورة مجتمعية نابعة من طبيعة هذا القطاع الحيوي بالنسبة للمجتمع برمته، والتي تجعله محورا مركزيا ومؤشرا أساسيا من مؤشرات للتنمية المستدامة؛ فكونه محط انتظارات مهمة من طرف المواطنات والمواطنين لكونه يقوم بتوفير خدمات دائمة وكدا استعجالية تروم الاستجابة الفورية والفعلية لحاجياتهم المتزايدة، يفرض أن يكون وضعه الاعتباري متميزا ومحل اهتمام خاص من طرف كافة المتدخلين. ونظرا لكون الوزارة الوصية لاتشرف إلا على منظومة العلاجات وتبقى بعيدة عن ضبط كافة محددات المنظومة الصحية وأن العاملين في القطاع هم الحلقة المهمة في هذه المنظومة ويخضعون لشروط المنظومتين معا، مما يجعلهم يتحملون تبعات هذا القصور الهيكلي الذي يعيق مصالحتهم بمعية المواطنين مع منظومتهم الصحية برمتها. فإن هذا الواقع الذي يطبعه تعدد الفاعلين والمستفيدين والممولين يحتم الإعتراف بخصوصية قطاع الصحة وإقرارها - من خلال تدابير قانونية ومالية - لتصبح مدخلا أساسيا للإصلاح الشمولي، وتقوية دور الفاعلين الإجتماعين في القطاع عبر وضع آلية لتفعيل دورهم في التأطير والرفع من المردودية، وإشراك العاملين في مجهودات النهوض به وتحسين أوضاعهم المادية والمهنية باعتباره ضامنا أصيلا للرفع من مستوى الخدمات الصحية. وإنجاز الميثاق الوطني من أجل الصحة للجميع – الرهين بإقرار خصوصية قطاع الصحة – في اتجاه هيكلة مبدعة للقطاع تُمكن من وضع استراتيجية طويلة الأمد بعيدة عن برامج العمل الظرفية، وإحداث المؤسسة الوطنية العليا للصحة تكون بمثابة المجلس الوطني للصحة. الجامعة الوطنية للصحة مراكش، 1 يوليوز 2013 موجهة إلى رئيس الحكومة ووزير الصحة، سملت نسخ منها لمسؤولي وزارة الصحة، ممثلي القطاعات الحكومية، ممثلي المنظمات والهيئات الوطنية والدولية المعنية، ووسائل الإعلام كما تم تعميمها على العديد من المشاركات والمشاركين في المناظرة الوطنية الثانية للصحة أيام 1 و 2 و3 يوليوز 2013 بمراكش