المسائية العربية يعد الارتقاء بالدولة إلى مصاف الدول المتقدمة من صميم مهام السلطة القضائية ؛ حيث المراهنة عليها باعتبارها رافدا أساسيا من روافد التنمية والازدهار في مجتمع وُصف -حسب تعبير الفيلسوف الألماني Ulrich Beck- ب"مجتمع المخاطرة". ولعل أجلى ما يتكشف عنه ذلك في هذا المقام، هو ما عبر عنه المغفور له محمد الخامس في خطابه الشهير بمناسبة تدشين المجلس الأعلى بتاريخ 23-10-1957، قائلا: "(..) لابد لبناء أمة بناء متينا من توفير العدل لها، إذ العدل في كل أمة أساس عمرانها واستقرارها ودعامة رقيها وازدهارها (..)" (خطاب المغفور له محمد الخامس، ألقي بتاريخ 23-10-1957 بمناسبة تدشين المجلس الأعلى). بيد أن لاضطلاعها بهذا الدور الهام، لابد أن تتسم بالفعالية والدينامية المتطلبتين لتحقيق كل ذلك وغيره من الأدوار المنوطة بها ؛ إذ يُرتهن قيامها -في اعتقادنا- بضرورة توفير بعض الوسائل الكفيلة بتنزيلها على أرض الواقع. ونزولا عند هذا الاعتبار، بادر جل قضاة المملكة الأحرار إلى تأسيس جمعيتهم المهنية الموسومة ب"نادي قضاة المغرب"، باعتبارها من أهم تلك الوسائل المذكورة آنفا، خلافا لما تَلَّى ذلك –ولازال- من نقاش قد يطبعها بشيء من اللبس والغموض. وغير خاف أن العامل المجتمعي، كان هو المحرك الرئيس في بزوغ رغبة القضاة المغاربة إلى تأسيس جمعية مهنية، تهتم بكبائر الشأن القضائي وصغائره. ويتأدى هذا العامل أساسا، في استشراء ثقافة التذمر من جودة العمل القضائي، وضعف ثقة المواطنين فيه، حيث أصبح الكل يتحدث عن إصلاح القضاء، دون الالتفات إلى مسببات ما آل إليه وضعه ؛ مما أدى حتما إلى تقويض مبدأ "الأمن القضائي"، الذي ينشده كل مجتمع طامح في الرقي والازدهار. لذلك، حُقَّ لنا ولكل المجتمع أن يتساءل عن: ما هي الأهداف التي أُنشئ من أجلها "نادي قضاة المغرب"؟ 1- الدفاع عن استقلال السلطة القضائية ليس هناك من ريب في أن مبدأ استقلال السلطة القضائية، يعتبر بمثابة القطب الذي تَجُوب حوله رحى الديمقراطية، وتكريس دولة المؤسسات القائمة على سيادة القانون، والتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية... ويتحصل هذا المبدأ –حسب ما فصلناه في مقال سابق- وفق مفهومين متلازمين: - أولهما مُضيَّقٌ يجعلها منفصلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث يحرم عليهما التدخل في شؤونها، تفاديا لأي تأثير محتمل فيما تصدره من أحكام، إن على المستوى القبلي أو البعدي. ناهيك عما تثيره مسألة تبعية النيابة العامة لوزارة العدل (سلطة تنفيذية) من انتهاكات له، حيث تتحكم السياسة والانتماءات الإديولوجية في بعض المتابعات ؛ إذ ربما تتحرك في ملفات وتجمد في أخرى. - ثانيهما مُوسَّعٌ يشمل -فضلا عن الأول- استقلالها عن سلطتي المال والإعلام، وذلك اجتنابا لعدوى شخصنة أحكامها من جهة، وإحقاقا ل"العدالة المجردة" من جهة أخرى. وإذا كان السبيل لذلك، متوقفا بالأساس على ضرورة احتواء هذا المبدأ دستوريا –وكذلك كان-، فإن من باب أولى، أن يقترن بتحسين الوضعية المادية والاجتماعية للقضاة، باعتبارها مدخلا رئيسا لتفعيل الاستقلال المنشود، نظرا لما قد تُوَرِّثه من حالات تزيغ بالقاضي (دون قصد) عن مقصد فلسفة "إظهار الحق وإزهاق الباطل"، وإلا فلا معنى لاستقلال السلطة القضائية بمفهوميه أعلاه. استرجاع هيبة القضاء لعل المتتبع للشأن القضائي بالمغرب، يستشف بالواضح الملموس، مدى التجني على هيبة القضاء والقضاة به، وذلك بالنظر لتظافر عدة عوامل ساهمت بشكل أو بآخر في ذلك. وقد كان من أهمها، ما طال القضاة من حجر قانوني أفقدهم حق الدفاع عن مؤسستهم، فبالأحرى أنفسهم ؛ إذ خيمت على أدائها كثرة الأقاويل والحكايات التي وإن كان بعضها صحيحا، فكثيرها باطل والقضاء منه براء. وترتيبا على ذلك، صار حديث الخاصة والعامة عن الرشوة مقرونا بشخص القاضي، بينما ليس له –واقعيا- في العملية القضائية، إلا مرحلة أخيرة قوامها مناقشة ما استُجمِع من معطيات حول القضية، فاستنتاج ما يراه حقيقة من خلالها. ولما كان الحديث عن آفة الرشوة، مسألة محمودة باعتبار آثارها الوخيمة على المجتمع ؛ فإن من العدل، أن لا نصب جَمَّ تصوراتنا حولها على القاضي المحكوم عليه بالصمت (آنذاك) وإلا كانت المعادلة مبتورة، والنتيجة المترتبة عنها ناقصة. ناهيك عما يعانيه القاضي -في سبيل الحفاظ على هيبة مؤسسته- من شح في الوسائل الدنيا للعيش الكريم، موازنة بما يتحمله من عظيم الأعباء والواجبات. 3- الحفاظ والدفاع عن حقوق المواطنين يكاد يكون من نافل القول، اعتبار مبدأ استقلال السلطة القضائية من أولى ضمانات حماية حقوق المواطنين، سواء بصفتهم الإنسانية المجردة، أو بصفاتهم المدنية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها. ويرتد مناط ذلك بالأساس، إلى ما يستلزم تفعيل تلك الحقوق من استقلال حقيقي، يضمن العدل والمساواة بين العموم والخصوص. وتعتبر هاته الحقوق، من صميم مشتملات عموم ما تقرر في علم القضاء بشأن حِكمَتِه، حيث جاء بخصوصها كونه: "رفعُ التَّهَارُجِ، ورد النَّوَائِبِ، وقمعُ الظالم، ونصرُ المظلوم، وقطعُ الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (علي بن خليل الطرابلسي: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، دار الفكر، ص 7). وتخصيصا لعموم حِكمة القضاء أعلاه، دأب المغفور له الحسن الثاني على ذات المنوال قائلا: "(..) وإذا بين أيدي القاضي أكبر سلطة وأخطرها في المجتمع، فهو يتحكم في الأنساب والأموال، وفي حريات البشر وأرواحهم، كما أنه مؤتمن على حقوق الدولة ومؤسساتها المقدسة" (نفس الكلمة المذكورة أعلاه للمغفور له الحسن الثاني). ونزولا عند كل هذا، يمكن القول جزافا، أننا أمام جيل جديد لحقوق الإنسان، أو بالأحرى حقوق المجتمع التي تتجلى في: "حق المجتمع في العدل"، و"حق المجتمع في استقلال القضاء"، و"حق المجتمع في نزاهة القضاء"، و"حق المجتمع في هيبة القضاء".. إلخ، إذ لم تكن هاته الحقوق في سابق عهدها سوى مُثُلاً تتلمسها المجتمعات بعدما صارت حقوقا تحرص على عدم انتهاكها والتطاول على حرمتها وقدسيتها. 4- إذكاء روح التضامن بين القضاة لا شك أن تحقيق الأهداف السالفة الذكر، متوقف بالضرورة على مدى اتصاف القضاة بروح التضامن والتآزر والتعاون، شحذا لهممهم، وتجديدا لطاقة مؤسستهم، واستجلابا لخير غيرهم من المواطنين، أفرادا كانوا أو مؤسسات. ويتحصل هذا المبدأ أساسا، في اندماج بعضهم البعض إلى درجة الانصهار المفعم بثقافة نكران الذات، فضلا عن الانضواء تحت لواء واحد ؛ ألا وهو "المصلحة العليا للقضاء". وخَلِيقٌ بالإشارة هنا، أنه ما كان ل"نادي قضاة المغرب" –مبتدأً- أن يتأسس لولا تضامن أعضائه وتآزرهم، مما يعد مدعاة للعمل على إذكاء روح ما ابتدأ به، إمعانا في الدفاع عن القضاء وذويه. ولعل الشواهد على تضامن القضاة في الآونة الأخيرة كثيرة، وربما الأيام المقبلة حبلى بالأكثر. 5- تخليق الحياة القضائية والعامة رب متسائل يقول، كيف للقضاة أن يتضامنوا مع من أساء إليهم ولمهنتهم بممارساته اللاأخلاقية وغير المهنية؟ نقول جوابا على ذلك، وبملإ فيهنا، إننا في نادي القضاة، أخذنا على عاتقنا مسؤولية محاربة كل مظاهر الانحرافات التي تشوب عملنا كهيأة قضائية بكل ما أوتينا من جهد وقوة في سبيل خدمة الصالح العام، رغم كل ما قد يحول دون ذلك من صعوبات وعراقيل، إذ لن نقتصر على مجال العدالة وحده، بل سنتعداه إلى كافة المجالات، بَلْهَ الهيآت والمؤسسات. وحري بالذكر هنا، أن المكتب التنفيذي للنادي، قد أقدم على خطوة غير مسبوقة يوم 26 ماي 2012، حيث أعلن عن تقديم كامل أعضائه لتصريح بممتلكاتهم –إن لم نقل ديونهم- في أفق توسيع نطاقها على كافة القضاة المنخرطين فيه، وذلك إيمانا منه بضرورة الانخراط الفاعل في تخليق منظومة العدالة، وتكريس مثال "الجمعية المهنية المواطنة"، مطالبا باقي الجهات والمؤسسات بنهج نفس الأسلوب، تمهيدا منها لتنزيل شعار "تخليق الحياة العامة" على أرض الواقع. 6- المشاركة في إعداد القوانين المتصلة بالقضاء ليس هناك من ريب في القول، بأن الضامن لتحقيق كل تلك الأهداف، يكمن أساسا، في مدى قدرة المشرع المغربي على احتوائها قانونا، بشكل يكفل تفعيلها حقيقة لا صوريا. وغني عن البيان في هذا الصدد، أن لا مندوحة لبلوغ هذه النتيجة من إشراك القضاة في وضع القوانين الخاصة بالسلطة القضائية، بدء بتلك المتعلقة بولوج المعهد العالي للقضاء والتكوين به، ومرورا بمتعلقات مسارهم المهني (التعيين، الترقية، التأديب..)، إن على المستوى المادي أو المعنوي، وانتهاء بوضعيتهم بعد الإحالة على التقاعد ؛ إذ من غير السائغ أن يقرر في ذلك غير القضاة أنفسهم، عملا بمنطق "أهل مكة أدرى بشعابها". غير أن ما نتأسف عليه في هذا الصدد، هو غياب تمثيلية نادي قضاة المغرب –وبجانبه مجموعة من الفاعلين المحوريين بحقل العدالة- في تشكيلة الهيأة العليا للحوار من أجل إصلاح العدالة، علما أنه يعد، وبقوة الواقع، "الجمعية الأكثر تمثيلا" للقضاة، إذ تم من خلال ذلك تثبيت فكرة طال تكريسها حَيْفا وعَسْفا ؛ ألا وهي: "تشريع غير القاضي في شأن يخص عمل القاضي". ذ عبد الرزاق الجباري