إنه لم يعد يكفي معيارا للصدق والمصداقية أن يعلن الواحد منا أنه مع الحرية والديمقراطية. فالأولى به أن يعيد النظر في علاقته بمفاهيم الحرية والسلطة والحقيقة! بدلا من الاستبداد برأيه وبالناس! من خلال تنصيب نفسه وصيا على الحريات والحقوق! أو بتعامله مع الحرية بطريقة استبدادية. في النهاية وكما علمتنا تجارب القهر والاستبداد، لا أحد يحرر أحدا، بل الواحد، فردا كان أم مجتمعا، يتحرر بقدر ما يصنع حقيقته ويشكل سلطته ومداه الوجودي عبر الخلق والإنتاج والابتكار. فالتحرير و التحرر هو اشتغال على الذات والفكر والواقع لمغادرة حال العجز واليقظة من السبات! بإعادة طرح الأسئلة وصوغ المشكلات أو فحص المقولات! وذلك لتجاوز الأسئلة غير المنتجة أو فضح الثنائيات المزيفة والخادعة! أو تفكيك المقولات الضيقة والأجهزة القاصرة. وهكذا فالتحرر هو امتلاك لإمكانات وجودية جديدة! تتيح للفرد إعادة ترتيب علاقات القوة بينه وبين الآخرين! بمن فيهم الحكام وأهل السياسة! وذلك بفهم ما يستعصى على الفهم! أو بعمل ما لم يكن ممكنا عمله! أو بفعل ما لم يكن بالمستطاع فعله. بذلك يمارس هذا الفرد فاعليته كمنتج للديموقراطية . وحدها الديموقراطية الفكرية والمعرفية تتيح له أن يمارس مشروعيته النضالية. والنضال الحقيقي هو الذي يتيح للمرء تغيير علاقته بذاته وفكره! بقدر ما يتيح له تغيير علاقته بالواقع والحقيقة. هذا هو شأن المناضل المنتج والفعال. إنه إقامة علاقة نقدية مع الذات بغية تغيير علاقات القوة بإعادة رسم خريطة المعرفة الديموقراطية. بهذا المعنى فالمعرفة النضالية هي امتلاك للقوة وممارسة الديموقراطية للحضور والفاعلية. كثير من الأسئلة ظلت تؤرق الفكر السياسي ، لدى البعض، دون أن يعثر على إجابات شافية لها.. ترى في أي العصور وتحت أي ظروف ينتعش هذا الفكر ويتحرر حتى يتمكن من تقديم أفضل ما يستطيع من تحليلات لعصره؟؟ أفي زمن الغلبة والانتصار والصعود أم في زمن الهزيمة والتشرذم والتراجع؟ أفي أوقات الوفرة ورغد العيش أم في أوقات الندرة والضنك وعسر العيش؟ أفي عصر التسامح السياسي والقبول بالرأي الآخر أم في عصر البطش والتضييق وفساد علاقة الحاكم بالمحكوم؟ وقد تدهش وقائع التاريخ البعض حين يجد كثيراً من الأدلة التي تشير إلى أن انتعاش الفكر السياسي قد يأتي في ظل نضج السياسة والاقتصاد بل وازدهار الحرية وانتشار العدل. فالفرد الذي لا يستطيع أن يخطط ويقيم سياسات عقلانية أو بناء منظما، فلا غرابة أن تفضي أفعاله إذن إلى غير المتوقع وإلى الكارثة والإخفاق والدمار. إذا كان من حق كل امرئ أن يعتقد أنه ،على صواب وأنه يملك الحقيقة، فإنه لا ينبغي أن يترتب على ذلك أنه لا يحق للآخرين أن يقفوا من المسائل نفسها موقفا مخالفا فيقطعوا بذلك كل سبيل للحوار ويمهدوا الطريق إلى وأد الحرية وإقامة نظام الاستبداد، والإجهاز على كل أمل في بناء عالم اجتماعي تسوده العدالة والحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية. لقد كشفت بعض الفضائح التي تتفجر هنا وهناك في الممارسات السياسية؟؟ عن أن بعض الذين يتصدرون لقضايا الفكر السياسي وللدفاع عن حقوق الإنسان ضالعون تماما في عملية خرق هذه الحقوق والتنكر لتلك القضايا في ممارساتهم اليومية. وهناك سؤال جوهري يكمن وراء المفارقة بين القول الصادر عن العقل الناطق والعقل الآتي من الجوارح، و لماذا تفضي مشاريعنا إلى الإخفاق مع أننا نصوغها وفقاً لأحكام العقل؟ ما الذي يجعلنا نضع القناع ونمارس الدور المرسوم لنا، ونغني بالفضيلة والصلاح ونناضل التسيب بطلب الحرية.. ثم نلقي كل ذلك عند أول قادم يلوح لنا بخيرات من نوع آخر؟ لماذا نعرف الحق ثم نفارقة؟ هناك إجابات جاهزة لكل هذه المفارقات، ولكنها ليست الإجابات الحقيقية، الجاهز أن ذلك من النفاق أو ضعف الشخصية أو غياب الإرادة أو الميل إلى الهوى أو حتى الشر والرذيلة ، ولكن كل هذه الإجابات وما حولها هي إجابات معيارية أخلاقية اجتماعية ، أما الإجابة الصحيحة فهي أن المشكلة كامنة في " قوة الإصلاح العقلاني وفي مدى تأثيره في حراك الإنسان نفسه وفاعليته، فلو كان النظر الإصلاحي يفضي بالضرورة إلى الفعل لانحسمت المشكلة وانتفت المفارقة، وما احتاج الإنسان الفرد منا إلى تلك الحيل لأن الواقع والمنطق منسجمان، ولأن الممارسة وتصور الحق والفضيلة منسجمان أيضاً، ولكن للواقع المعيش أحكاماً أخرى، هذا الواقع يكذب تكذيباً قاطعاً أن الإصلاح العقلاني هو السيد المطاع في حلبة الفعل. وذلك يعني أن ، إصلاح العقل ، وحده بتجريد النقد له هو أمر غير كاف على الإطلاق ، لذلك علينا أن نتحول من " نقد العقل" إلى " نقد الفعل" ، لأن الإنسان إدراك وهوى ووجدان وشهوة وغرائز، وتجربة كل يوم ترينا إلى أي مدى يبدو حراكنا الفردي الاجتماعي محكوماً بالرغبة أو المنفعة أو الحاجة أو الميل إلى الهوى أو الاستهتار وعدم الاكتراث، وإلى أي مدى تبدو العقلانية المحبوبة مخدوعة في حبيبها وعاشقها. كثيراً ما نرى التناقض بين حكم العقل والإرث الاجتماعي أو السياسي أو الرغبة أو الشهوة أمراً رديئاً أو باطلاً ولكن هذا التناقض يعبر أيضاً عن رغبات وحاجات مشروعة ، والخطأ هنا ليس في حكم العقل ولكن فيما ظنناه أنه حكم عقل وهو حكم هوى أو تراث، لذلك يقضي الحال بأن نعترف ونمهد السبيل إلى تحقيق الحاجات السوية للإنسان، لأن حكم العقل الصحيح هو " الحاجة الطبيعية إلى المعرفة الموضوعية المستندة إلى أحكام العقل الموضوعي. عندما يتم الحديث عن الرغبة الملحة في نقد الأفعال فهذا يعني أن الحالة الوضعية للقيم في المجتمع تعاني من اضطرابات سلوكية ظاهرة، ولا يخفى على أحد أن التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي اعتورت فئات هذا المجتمع قد تركت آثاراً عميقة وحقيقية في قيم الأفراد والمجتمع، أما الحداثة المزعومة فقد عقدت هذه الآثار وأحدثت خللا عميقاً في شبكة القيم نفسها، مؤدية إلى فوضى شاملة في هذه القيم. ولذلك فإن حالة التدافع الشرس غير الرحيم هي التي تنشر في مفاصل المجتمع وحياة الأفراد، وفي مثل هذه الأحوال تفتقد الكفاية الذاتية معناها، وتصبح الطرق الملتوية والطرق غير القانونية وغير الإنسانية هي السبيل إلى إدراك المقاصد والمنافع.